للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قلت لكم: إن هذه المشاهد كثيرة، وإن عرض سيد رحمه الله تعالى كثير أيضا وما ذكرت ليس أوضحها وليس أجملها ولكنه منها على كل حال.

تلكم مشاهد مركبة من صور، وصور متعددة، وقد يكون الجمال التعبيري والجمال الفني في مفردة خذ مثلا كلمة "أفضى" من قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} ١ وقف رحمه الله تعالى وقفة عند كلمة أفضى استلهم منها كل الصور والظلال والإيحاءات التي تحتويها ولا يدركها إلا القليل قال: "ويدع الفعل "أفضى" بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتها فترة من الزمان وفي كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء، وفي كل شوق إلى خلف إفضاء، وفي كل التقاء وفي وليد إفضاء كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف"٢.

أفلا يحق لنا معشر الأحبة وقد تغنى الأدباء ببلاغة بشار بن برد حين قال وهو الأعمى يصف معركة:


١ سورة النساء: الآيتين ٢٠-٢١.
٢ في ظلال القرآن: ج١ ص٦٠٦-٦٠٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>