للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم قرر بعد هذا: أن كثيرًا من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحد؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو المتأخرين من علوم الطبيعيات والتعاليم١ والمنطق وعلم الحروف، وجميع ما ينظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه -على ما تقدم- لم يصح، وإلى هذا فإن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن ومعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكليف وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك ولو كان لهم في ذلم خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن؛ فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا٢.

وبيَّن ذلك في موضع آخر عند ذكر العلوم المضافة إلى القرآن؛ فبعد أن ذكر من العلوم ما هو كالأداة لفهمه والوسيلة لاستخراج فوائده قال: "ولكن قد يدَّعَى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها مُعِينَةٌ على فَهْم القرآن، وأما غير ذلك فقد يعده بعض الناس وسيلة أيضًا، ولا يكون كذلك -كما تقدم في حكاية الرازي- في جعل علم الهيئة وسيلة إلى فَهْم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} ٣، وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بـ"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" أن علوم الفلسفة مطلوبة؛ إذ لا يفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال لما بعد في المعارضة.


١ أي: الرياضيات من الهندية وغيرها.
٢ الموافقات: الشاطبي ج٢ ص٧٩، ٨٠.
٣ سورة ق: من الآية ٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>