للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولًا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني، معزولا عن الاستعمال القرآني الذي لم يجئ بالمقابر هنا لمجرد المشاكلة اللفظية والرنين الصوتي، وإنما هي الملاءمة المعنوية أيضا بين التكاثر والمقابر بما فيهما من سعة وشمول وعموم وهو هو الإعجاز البياني لا يقوم فيه لفظ القبور مقام المقابر بما تلفت إليه من مصير للحشد والتكاثر، وبما تضع أمام المتكاثرين من عبرة رادعة زاجرة حين تصدمهم بذكر المقابر إثر {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} ١.

وكون الدكتورة عائشة تستنبط هذا مع أن اللفظة هذه لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة يدل على مدى حرصها على جلاء معاني المفردات جلاءا لا ينظر صاحبه إلى اللفظة المفردة مجردة من مثيلاتها أو حتى من جملتها.

ومثلا أخيرا من عنايتها بالمفردات نذكره لتأكيد اهتمامها في ذلك، ذلكم تفسيرها لـ "السعي" في قوله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ٢، أوردت المعنى اللغوي أولًا: "والسعي في اللغة المشي، لحظ فيه أن الساعي يبتغي عملا أو يتجه إلى مقصد يدأب له، فكان السعي بمعنى العمل مع القصد والدأب".

ثم أوردت الاستعمال القرآني فقالت: "وفي الاستعمال القرآني للمادة نجد الدلالة الأولى للسعي بمعنى: المشي والحركة على الحقيقة أو التخييل والمجاز، في آيتي "طه" عن عصا موسى ألقاها: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ٣، وحبال السحرة وعصيهم ألقوها: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} ٤، وفي آيتي التحريم والحديد، في نور المؤمنين: {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِم} يوم القيامة، كما نجد دلالة السعي على العمل مع الدأب في آيات: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: ٩٤] ،


١ التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج١ ص٢٠٧-٢٠٨.
٢ سورة الليل: ٤.
٣ سورة طه: ٢٠.
٤ سورة طه: ٦٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>