وبهذا ترفض الدكتورة عائشة ما أوردته من تفسير الرازي لليتم، وتقصره على فقدان الأب.
ومثلا ثالثا نظهر به مدى عناية الدكتورة باستقراء ألفاظ القرآن ومدى انتشاره في تفسيرها فهي تفعل ذلك حتى ولو لم يرد اللفظ في القرآن إلا مرة واحدة كيف؟! خذ مثلا كلمة "المقابر" من قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} ١ قالت: "وفي المقابر سر بياني آخر لفتني إليه أن المقابر لم يأتِ قط في غير آية التكاثر، على حين جاءت "القبور" خمس مرات، كما جاء "القبر" مفردا في المخلفين الذين قعدوا عن الخروج للجهاد مع الرسول: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ}[التوبة: ٨٤] .
وقد تجد الصنعة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملاءمة صوتية للتكاثر، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحس معهم فيها نسق الإيقاع وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في الاستعمال القرآني للفظ المقابر في آية التكاثر؟
الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي، ملحظا بيانيا يتصل بالمعنى: فالمقابر جمع مقبرة وهي مجتمع القبور واستعمالها هنا ملائم معنوي لهذا التكاثر، دالٌّ على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فان ... هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمنتهم. وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم بها لفظ "القبور" بما هي جمع لقبر. فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني "المقابر" على "القبور" حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون وحين يلفت إلى مصير هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين.