للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

صح الخبر صار أصلاً من الأصول. فلم يكن الباحث بحاجة إلى عرضه على أصل آخر، لأن الأصل الثاني إن وافقه عضده وقواه، وإن خالفه لَمْ يَجُزْ رَدُّ أحدهما لأن هذا من قبيل رد الخبر بالقياس، وهو مرفوض بالاتفاق، فان السُنَّةَ مقدمة على القياس (١). «وَلَوْ أَنَّ امْرُءًا قَالَ: لاَ نَأْخُذُ إِلاَّ مَا وَجَدْنَا فِي القُرْآنِ لَكَانَ كَافِرًا بِإِجْمَاعِ الأُمَّةِ، وَلَكَانَ لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ رَكْعَةً وَاحِدَةً مَا بَيْنَ دُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ (٢)، وَأُخْرَى عِنْدَ الفَجْرِ، لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ صَلاَةٍ، وَلاَ حَدَّ لِلأَكْثَرِ فِي ذَلِكَ» (٣).

لكن صحة العمل بخبر الواحد شيء، والقطع به شيء آخر، فالجمهور على أن خبر الواحد الثقة حجة يلزم به العمل (٤)، ويظل هذا النوع من الخبر ظني الدلالة لا يفيد القطع عند أكثرهم (٥)، وذهب قوم، منهم الإمام أحمد، والحارث بن أسد المحاسبي، الحسين بن علي الكرابيسي، وأبو سليمان - وروي عن مالك - إلى أنه قطعي موجب للعلم اليقيني (٦)، حتى قال ابن حزم: «إِنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ العَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ مَعًا» (٧). ومن هنا


(١) ذكر نحو هذا ابن السمعاني في كتابه " الاصطلام "، نقله القاسمي في " قواعد التحديث ": ص ٧٧.
(٢) أخذًا من قوله تعالى في سورة الإسراء {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: ٧٨].
(٣) " ألإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: ٢/ ٨٠.
(٤) " شرح مقدمة مسلم " (للنووي): ١/ ٦٣.
(٥) عَلَّلَ النووي في (" التقريب ": ص ٤١) عدم قطعية الآحادي ولو كان صحيحًا بقوله: «لِجَوَازِ الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ عَلَى الثِّقَةِ» وعزا هذا الرأي للأكثرين والمحققين.
(٦) " الإحكام " (للآمدي): ١/ ١٠٨.
(٧) " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم: ١/ ١١٩ - ١٣٧.