للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تصدى الخطيب البغدادي لنقد هذا الرأي فعقد في " الكفاية " فصلاً للرد على من قال: يجب القطع على خبر الواحد (١). وآخر لذكر شبهة من زعم أن خبر الواحد يوجب العلم، وإبطال تلك الشبهة (٢)، ولم ير في الوقت نفسه مَانِعًا من الإفاضة في التزام العمل بأخبار الآحاد، والاحتجاج على ذلك بما صَحَّ من الروايات، إذ تكلم على ذلك كله في بحث مستقل بعنوان: «ذِكْر بَعْضِ الدَّلاَئِلِ عَلَى صِحَّةِ العَمَلِ بِخَبَرِ الوَاحِدِ وَوُجُوبِهِ» (٣)، ثم فصل ما يقبل فيه خبر الواحد وما لا يقبل فيه، وانتهى إلى أن هذا الضرب من الخبر لا يقبل في «مُنَافَاةِ حُكْمِ العَقْلِ وَحُكْمِ القُرْآنِ الثَّابِتِ المُحْكَمِ , وَالسُّنَّةِ المَعْلُومَةِ , وَالفِعْلِ الجَارِي مَجْرَى السُّنَّةِ , وَكُلِّ دَلِيلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ» (٤).

ولئن دَلَّ هذا على شيء فإنما يدل على مكانة الحديث الصحيح في التشريع ولو رُوِيَ آحاديا، فإنه ليبدو عَسِيرًا، بل شبه مستحيل، أن تروى أخبار العلوم الوضعية، فضلاً على الدينية السماوية، بطرق أدق إسنادًا، وأصدق وَرَعًا، وأكمل أمانة. وأشد حَذَرًا، وأبلغ احتياطًا، وأوسع شهرة واستفاضة وانتشارًا، من أحاديث هذا الرسول العربي العظيم، ولو لم يبلغ معظمها درجة التواتر، ولم نورث أجيال الأمة كلها شعورًا واحدًا - أو متماثلاً - في العلم القطعي اليقيني.

ولذلك لا يضر الخبر الصحيح عَمَلُ أكثر الأمة بخلافه، لأن قول


(١) " الكفاية في علم الرواية ": ص ١٨ - ٢٠.
(٢) المصدر نفسه: ٢٥، ٢٦.
(٣) نفسه: ص ٢٦.
(٤) نفسه: ص ٤٣٢.