للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

القوم من بدأ يستسيغ التدوين. ولا سيما حين يكون مُجرَّدًا من الآراء الشخصية مقتصرًا على الأحاديث نفسها، لأنَّ محاولات الكتابة هي التي حملت هؤلاء العلماء على استنكارها، فهم لم يستنكروها نظريًا من حيث المبدأ بل تشدَّدُوا في أمرها عمليًا عند التطبيق. فلا يدهشنا بعد ذلك أنْ نجد لسعيد بن جُبير (- ٩٥ هـ) نقلين في شأن الكتابة يوهمان التضارب ولا تضارب، فهو تارة ينقل عن ابن عباس أنه كان ينهى عن كتابة العلم وأنه قال: «إِنَّمَا أَضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمُ الكَتْبُ» (١) وتارة ينقل عنه أنه قال: «خَيْرُ مَا قُيِّدَ بِهِ العِلْمُ الكِتَابُ» (٢): فالنهي ينصرف إلى ما تشتمل عليه الكتب من آراء خاصة. والنصيحة بالكتابة تنصرف إلى العلم بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولذلك لم يكتف سعيد بن جبير بالكتابة بل بالغ في الحرص عليها فقال: «كُنْتُ أَسِيرُ بَيْنَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، فَكُنْتُ أَسْمَعُ الحَدِيثَ مِنْهُمَا، فَأكْتُبُهُ عَلَى وَاسِطَةِ الرَّحْلِ حَتَّى أَنْزِلَ فَأَكْتُبَهُ» (٣).

ولما بدأ الناس يفرِّقُون بين فكرة النهي عن كتابة الأحاديث وفكرة النهي عن كتابة الآراء الشخصية، أصبح كثير من أوساط التابعين في أول المائة الثانية لا يرون بأساً في تقييد العلم، ويرخصون لتلامذتهم بتقييده، كما رخص سعيد بن المسيب (- ١٠٥ هـ) لعبد الرحمن بن حرملة بذلك حين شكا إليه سوء


(١) " تقييد العلم ": ص ٤٣ وفي معناه ما جاء في " جامع بيان العلم ": ١/ ٦٥.
(٢) " تقييد العلم ": ص ٩٢.
(٣) " تقييد العلم ": ص ١٠٣ وانظر ما يقاربه في " جامع بيان العلم ": ١/ ٧٢. وعلى هذا الأساس، يمكننا التوفيق بين قول كثير بن أفلح (- ٦٣ هـ): «كنا نكتب عند زيد بن ثابت» - " تقييد العلم ": ص ١٠٢ وبين ما علمناه من رواية زيد بن ثابت حديث النهي عن الكتابة (راجع ما سبق أنْ ذكرناه في أول البحث).