للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أقل ما يفترض في هذا التفرد الإقليمي. اختلاف العبارات باختلاف الرُواةفي الأقاليم، ولكن هذه الروايات المتباينة أخذت في التقارب شيئاً فشيئاً حتى أمكن صهرها في قالب واحد، وخيَّل إلى سامعها أو قارئها للمرة الأولى أنها رواية مصر واحد لا عدة أمصار.

والأمثلة على هذا كثيرة، غير أننا نجتزئ منها بذكر حديث «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لاِمْرِئٍ مَا نَوَى» لأهميته في نظر المُحَدِّثِينَ. فعبد الرحمن بن مهدي (- ١٩٨ هـ) يقول: «مَا يَنْبَغِي لِمُصَنِّفٍ أَنْ يُصَنِّفَ شَيْئًا مِنْ أَبْوَابِ العِلْمِ إِلاَّ وَيَبْتَدِئُ بِهَذَا الحَدِيثِ» (١). وبمثل هذا صرَّح البخاري في قوله: «من أراد أنْ يصنِّف كتاباً فليبدأ بحديث " الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ "» (٢)، وهو الحديث الذي افتتح به البخاري " صحيحه " - كما هو معلوم - فشرع بتطبيق هذا المبدأ على نفسه، وبه افتتح العلماء الكثير من مصنَّفات الحديث أخذاً بهذه الوصية الكريمة.

وحين يجد القارئ في كتب السُنن أنَّ حديث النية طليعة هذه الكتب، وأنَّ متنه يكاد يكون واحداً فيها جميعاً، يُخيَّلُ إليه أنَّ شروط التواتر متوافرة فيه، وأنه لا بد أنْ يكون قد رواه الجمع الكثير عن الجمع الكثير، والحق أنَّ هذا الحديث - كَمَا قَالَ البَزَّارُ (٣) في " مُسْنَدِهِ " - «لاَ يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلاَّ مِنْ حَدِيثِ


(١) " الجامع لأخلاق الراوي ": ١٠/ ١٩٣ وجه ٢.
(٢) المصدر نفسه، وفي الصفحة ذاتها.
(٣) هو الحافظ الشهير أحمد بن عمرو بن عبد الخالق. ويُكنَّى أبا بكر. تُوُفِّيَ سَنَةَ ٢٩٢ وله مسندان: كبير وصغير. ويُسَمَّى الكبير " البحر الزخَّار " و" الكبير المُعلَّل ". وفيه يتكلم في تفرد بعض رُواة الحديث ومتابعة غيره عليه، كما رأينا في تفرَّد عمر بحديث النية. وانظر " الرسالة المستطرفة ": ص ٥١.