أخذت هذه الرحلة في طلب الحديث تضعف شيئًا فشيئًا، وبات الرحالون أنفسهم لا يستطيعون أن يُعَوِّلُوا على المشافهة والتلقي المباشر، فقد يضربون أكباد المطي إلى إمام عظيم حتى إذا أصبحوا تلقاء وجهه قنعوا منه بكتاب يعرضونه عليه، أو بإجازة يخصهم بها، أو بأجزاء حديثية يناولهم إياها مع إذنه لهم بروايتها، وقد يتطوع هذا الإمام نفسه بإعلامهم بمروياته، أو الوصية لهم ببعض مكتوباته، فيتلقفونها تلقفًا ويروونها مطمئنين كما لو كان صاحبها قد أجازهم بها بعبارة صريحة لا لُبْسَ فيها ولا إبهام. بل لقد أمسى المتأخرون لا يجدون حاجة للرحلة ولا لتحمل مشاق مذ أصبح حقًا لهم ولغيرهم أن يَرْوُوا كل ما يجدون من الكتب والمخطوطات سواء أَلَقُوا أصحابها أم لم يَلْقُوهُمْ. وذلك كله يعني أن السماع لم يعد - كما في فجر الإسلام - الصورة الوحيدة لتحمل الحديث وأدائه، وإنما أضحى إحدى الطرق الثمان التي استقرأها نُقَّادُ الحديث.
وبحثنا التالي سيدور حول هذه الطرق الثمان، وبدراستها وتتبع اصطلاحاتها ودقة التمييز بين عباراتها سيجد القارئ نفسه على موعد مع المُحَدِّثِينَ لأول مرة، فليحضر القلب وليرهف السمع، فإن لهؤلاء العلماء لغتهم الخاصة التي إن لم تطرب بإيقاعها الحلو كلغة الشعر والموسيقى، فهي تعجب بمحتواها العميق كلغة فذة في فن النقد والتحليل!.