حقيقيا بالظاهر والباطن، بالترك للدنيا كلها وعدم الميل إلى شيء منها، وكان ذلك عن طيب نفس ورضى بأن الدنيا لم تكن عنده شيئا، وكان كل ما يرد عليه منها ينفصل عنه من ساعته ولا يتمسك منه إلا بحاجة وقته، ولقد زهد، رضي الله عنه، حتى في الكتب، فإنه لم يكن عنده منها شيء، وكان لا يفتقر في مواعيده إلى مطالعة أو مراجعة شيء، لإحاطته وتحصيله، وجميع ما صنفه من الكتب ما كان يراجع فيه كتابا ولا يطالع فيه سوى مجرد فكره وتسديد نظره.
وسمعت انه، رحمه الله، أصبح يوما ولا شيء لأهله يقيمون به أودهم، وكانت له جارية هي أم ولده تسمى كريمة، وكانت سيئة الخلق، فاشتدت عليه في الطلب وإن الاصاغر لا شيء لهم، فقال لها الآن يأتي من قبل الوكيل ما ينتفعون به فبينما هم كذلك، وإذا الحمال يضرب الباب بشكارة قمح، فقال لها يا كريمة ما أعجلك، هذا الوكيل بعث بالقمح، فقالت: وما يصنع بالقمح ومتى يصنع، فأمر به فتصدق به، وقال لها: يأتيك ما هو أحسن منه، فانتظرت يسيرا وبدا لها في صدقته وتكلمت بما لا يليق من القول، فبينما هم كذلك، وإذا بحمال بشكارة سميد، فقال لها هذا السميد أيسر وأسهل من القمح، فلم يقنعها ذلك ولا رضيت، وتكلمت بمثل ما سبق من كلامها، فأمر أيضا بصدقته، ولما تصدق به زادت في المقال، فبينما هم كذلك وإذا برجل على رأسه كاملة فقال لها يا كريمة، قد كفيت المئونة، هذا الوكيل قد علم بحالك، فأغناك عن أعمالك.
وعلى مثل ذلك، كان حاله رضي الله عنه، وهذه المسألة جمعت الزهد والكرامة، وأنا أن شاء الله أذكر من كراماته ومكاشفاته، ما يدل على قدره وبهجة أمره رضي الله عنه.