وإن الناظر في حقيقة الدنيا يجد أنها لا تستحق هذا اللهث الكثير وراءها، والانشغال الكبير بها، والحرص الشديد عليها، والتقاتل الدائم من أجلها؛ فهي أحقر من ذلك كله؛ لأن المخلوق عليها مسافر عنها غير مقيم بها، واللبيب لا ينشغل بدار سفره التي عما قليل سينتقل عنها إلى دار إقامته التي سيبقى فيها دائمًا.
فالدنيا فانية والآخرة باقية، ومن العجب إيثار الفاني على الباقي! قال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى: ١٦، ١٧]. وقال تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت: ٦٤]، "يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها، وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب:{وَإِنّ الدّارَ الآخرة لَهِيَ الْحَيَوَانُ} أي: الحياة الدائمة الحق الذي لا زوال لها ولا انقضاء، بل هي مستمرة أبد الآباد. وقوله تعالى:{لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي: لآثروا ما يبقى على ما يفنى"(١).
فـ"الحياة الدنيا تكون أولاً شابة ثم تكتهل ثم تكون عجوزاً شوهاء، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف، بهي المنظر، ثم إنه يشرع في الكهولة فتتغير طباعه ويفقد بعض قواه، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى، قليل الحركة يعجزه الشيء اليسير كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ