للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

موته، والشيب من أمارات الضعف بعد القوة، والعجز بعد القدرة، والنقصان بعد التمام.

يقول تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: ٥٤]. قال ابن كثير: " ينبه تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالاً بعد حال؛ فأصله من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ثم يصير عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى، ثم يشبّ قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً، ثم حدثاً ثم مراهقاً شاباً- وهو القوة بعد الضعف- ثم يشرع في النقص فيكتهل ثم يشيخ ثم يهرم- وهو الضعف بعد القوة- فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللِمّة، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة؛ ولهذا قال تعالى: {ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوّةٍ ثُمّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} " (١).

النذير الصامت:

على المرء العاقل في هذه الحياة إن لم يسمع النُّذر الناطقة، أن يعتبر بالنذر الصامتة المشاهدة، فكم في نفسه وفيما يراه في حياته من عبر واعظة، فما يحدث له "من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والانتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له، فيكون حَدثًا شابًا ثم كهلاً ثم شيخًا وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من مرض وصحة وفقر وغنى، وفرح وحزن، ثم ما يراه في غيره وفي سائر الأشياء من حوادث الدهر التي لا صنع للمخلوقين فيها، كل ذلك داعٍ له إلى الله، ونذير له إليه" (٢).

قال ابن الجوزي: " العجب ممن يقول: أخرجُ إلى المقابر فأعتبر بأهل البلى، ولو فطن علم أنه مقبرة يغنيه الاعتبار بما فيها عن غيرها، خصوصاً من قد أوغل في السن؛ فإن


(١) تفسير ابن كثير (٣/ ٥٣٢).
(٢) أحكام القرآن للجصاص (٥/ ٢٤٨).

<<  <   >  >>