في هجعة الليل والظلام يرخي سدوله، والصمت ينشر على الحياة بساطه، والنوم يستولي على عيون كثير من الأحياء يسرق المحبُّ نفسَه من فراش الغفلة، يمشي مشي القطا حذراً من عيون الوشاة والمثبِّطين وأسماعهم، ويمضي إلى مناجاة الحبيب على أجنحة الحنين، وحُداء الوعد الحسن بعِظَم الأثر والجزاء.
ينطلق تحت جنح الظلام ليقف بين يدي ربه قائمًا، يصلي صلاة طويلة، ويقرأ قراءة خاشعة، ويتلذذ في طول ركوعه وسجوده، وينتصر على رهبه وقلقه، ويقرب من رغبه وأمنيته عبر جُمل دعائه وسؤاله مولاه الكريم.
إن لحظات قيام الليل لحظات غالية في زمن الدنيا الرخيص، تتسامى فيها الروح إلى فضاء الطهر على معارج الخشوع، ومصاعد السجود والركوع، لحظات خصبة تهتز فيها النفس وتربو فتنبت من الخيرات من كل زوج بهيج، لحظات تزهر فيها النفوس، وتلين فيها القلوب، وتذرف في رياضها العيون، وتسكن في روابيها الجوارح، ويجتمع فيها شعث الروح، ويطير فيها الفكر على جناحي الخوف والرجاء متأملاً في المصير المنتظر.
إن الحياة طريق إلى الله وهذه الطريق طويلة، فقام أهل العزم والشوق في الليل يقربون المسافة بينهم وبين وجهتهم، مستغلين خلو الطريق من المارة:(من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)(١).
والطريق إلى الله شاقة محفوفة بالمكاره فقاموا في تلك الساعة يخففون من مشقتها بالتزود من بركات هذه الأوقات وخيراتها، منتهزين غناها وفضلها، وقوة تأثيرها في
(١) رواه الترمذي (٤/ ٦٣٣)، والحاكم (٤/ ٣٤٣)، وهو صحيح.