الروح تجوع وتظمأ كما يجوع البدن ويظمأ، فغذاء البدن بالامتلاء من الطعام والشراب والشهوات والفضلات المشروعة، لكن غذاء الروح على خلاف ذلك؛ فغذاؤها بالخلو من الامتلاء من ذلك الغذاء، والإقبال على العبادة.
ولما كان صلاح الإنسان منوطًا بصلاح روحه، فقد شرع الله تعالى له بعض العبادات التي تصلح روحه، فكان من تلك العبادات: عبادة الصيام.
وهي عبادة مشروعة في الأمم قبلنا، كما في أمتنا، ولكن تشريعها في الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم هو أحسن التشريعات وأوفاها وأعدلها.
قال ابن القيم:" الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعدل، وأمر فيه بغاية الاعتدال؛ حتى نهى عن الوصال، وأمر بتعجيل الفطر وتأخير السحور، وجعل أعدل الصيام وأفضله صيام داود، فكان من تمام الاعتدال في الصوم: أن لا يدخل الإنسان ما به قوامه كالطعام والشراب، ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء، وفرق بين ما يمكن الاحتراز منه من ذلك وبين ما لا يمكن، فلم يفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع، كما لا يفطر بغبار الطحين، وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل، وجعل الحيض منافيًا للصوم دون الجنابة؛ لطول زمانه وكثرة خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة، وفرق بين دم الحجامة، ودم الجرح فجعل الحجامة من جنس القيء والاستمناء والحيض، وخروج الدم من الجرح والرعاف من جنس الاستحاضة والاحتلام وذرع القيء، فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلاً وتفصيلاً، وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل، ولله الحمد"(١).
(١) إعلام الموقعين عن رب العالمين، لابن القيم (٢/ ١٨).