للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأنه سيذهب به عن دنياه بلا عودة، وسيلقى ربه فيحاسبه على ما قدم؛ فإن سيستعد للموت بما ينجيه بعد الموت، ويفرحه بلقاء هذا القدر المحتوم، ومن كان مستعداً للموت في كل وقت ذهبت عنه سِنَة الغفلة، وأخذ لما بعد الموت الأُهبة، فجهّز زاد النجاة، وملأ حقائب سفره بما ينفعه عند لقاء ربه، وقصر من أمله، وتخلّص من مظالم الخلق وحقوقهم عليه، وظل مشغولَ البال بالرحيل، فإذا ناداه منادي الرحيل أجابه فرحًا مشتاقًا، غيرَ فزِعٍ ولا مشعوف، ولا آبق ولا حزين، وقال: مرحبًا بحبيب جاء على موعد.

فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخط خطًا في الوسط خارجًا منه، وخط خُطَطًا صغاراً إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال: (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به - أو قد أحاط به - وهذا الذي هو خارج أمله، وهذه الْخُطَطُ الصغار الأعراض (١)، فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا) (٢). وفي هذا الحديث: " تنبيه من النبي لأمته على تقصير الأمل، واستشعار الأجل؛ خوف بغتة الأجل، ومن غيب عنه أجله فهو حري بتوقعه وانتظاره؛ خشية هجومه عليه في حال غِرَّة وغفلة، ونعوذ بالله من ذلك، فليرُضْ المؤمن نفسه على استشعار ما نبه عليه، ويجاهد أمله وهواه ويستعين بالله على ذلك؛ فإن ابن آدم مجبول على الأمل" (٣).

قال ابن الجوزي: " الواجب على العاقل أخذ العدة لرحيله؛ فإنه لا يعلم متى يفجؤه أمرُ ربه، ولا يدري متى يُستدعى؟ وإني رأيت خلقاً كثيراً غرهم الشباب، ونسوا فقد الأقران، وألهاهم طول الأمل. وربما قال العالم المحض لنفسه: أشتغل بالعلم اليوم ثم أعمل به غداً! فيتساهل في الزلل بحجة الراحة، ويؤخر الأهبة لتحقيق التوبة، ولا يتحاشى من غيبة أو سماعها، ومن كسب شبهة يأمل أن يمحوها بالورع. وينسى أن الموت


(١) الأعراض" جمع عرض- بفتحتين-: وهو ما ينتفع به له الدنيا في الخير وفي الشر. فتح الباري (١١/ ٢٣٨).
(٢) رواه البخاري (٥/ ٢٣٥٩).
(٣) شرح صحيح البخاري، لابن بطال (١٠/ ١٥٠).

<<  <   >  >>