لم تكن سرية الدعوة في أول أمرها، خوفا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم على نفسه، ولكنه إلهام من الله، لتعليم الدعاة من بعده، وإرشادهم إلى مشروعية الأخذ بالحيطة والأسباب الظاهرة.
وفي هذا المجال، يحسن تلخيص كلام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عند رب العالمين، إذ جاء فيه:
إن النبي صلّى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر.
وقد استأذن الصحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال:«لا، ما أقاموا الصلاة» وقال: «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعن يدا من طاعته» . ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار آهامن إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار سلام، عزم على تغيير البيت وردّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك- مع قدرته عليه- خشية وقوع ما هو أعظم منه، من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.