وهكذا تتابعت الوفود إلى المدينة في سنتي تسع وعشر، وقد ذكر أهل المغازي والسير منها وفود أهل اليمن، والأزد وبني سعد هذيم من قضاعة، وبني عامر بن قيس، وبني أسد، وبهراء، وخولان، ومحارب، وبني الحارث بن كعب، وغامد، وبني المنتفق، وسلامان، وبني عبس، ومزينة، ومراد، وزبيد، وكندة، وذي مرة، وغسان، وبني عيش، ونخع- وهو آخر الوفود، توافد في منتصف محرم سنة ١١ هـ في مائتي رجل- وكانت وفادة الأغلبية من هذه الوفود سنة ٩ و ١٠ هـ، وقد تأخرت وفادة بعضها إلى سنة ١١ هـ.
وتتابع هذه الوفود يدل على مدى ما نالت الدعوة الإسلامية من القبول التام، وبسط السيطرة والنفوذ على أنحاء جزيرة العرب وأرجائها، وأن العرب كانت تنظر إلى المدينة بنظر التقدير والإجلال، حتى لم تكن ترى محيصا عن الاستسلام أمامها، فقد صارت المدينة عاصمة لجزيرة العرب، لا يمكن صرف النظر عنها، إلا أننا لا يمكن لنا القول بأن الدين قد تمكن من أنفس هؤلاء باسرهم؛ لأنه كان وسطهم كثير من الأعراب الجفاة الذين أسلموا تبعا لسادتهم، ولم تكن أنفسهم قد خلصت بعد ما تأصل فيها من الميل إلى الغارات، ولم تكن تعاليم الإسلام قد هذبت أنفسهم تمام التهذيب، وقد وصف القرآن بعضهم بقوله في سورة التوبة الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩: ٩٧، ٩٨) وأثنى على آخرين منهم قال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩: ٩٩) .
أما الحاضرون منهم في مكة والمدينة وثقيف، وكثير من اليمن والبحرين؛ فقد كان الإسلام فيهم قويا، ومنهم كبار الصحابة وسادات المسلمين «١» .
(١) كلمة للخضري في محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ١/ ١٤٤. وانظر في تفاصيل الوفود التي ذكرناها أو أشرنا إليها، صحيح البخاري ١/ ١٣، ٢/ ٦٢٦، ٦٢٧، ٦٢٨، ٦٢٩، ٦٣٠. وابن هشام ٢/ ٥٠١، ٥٠٢، ٥٠٣، ٥١٠، ٥١١، ٥١٢، ٥١٣، ٥١٤، ٥٣٧، ٥٣٨، ٥٣٩، ٥٤٠، ٥٤١، ٥٤٢، ٥٦٠ إلى ٦٠١، وزاد المعاد ٣/ ٢٦ إلى ٦٠، وفتح الباري ٨/ ٨٣ إلى ١٠٣ ورحمة للعالمين ١/ ١٨٤ إلى ٢١٧.