للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن الرأي الأول: يرد العجز العقلي إلى علة فطرية.

والرأي الثاني: يرد العجز العقلي إلى عوامل كسبية أي تخلف حضاري، وهما معا -على اختلافهما في تفسير علة إخفاق الهلينية- يتفقان على أن عدم تجاوب الشرق مع الهلينية هو السبب في ذلك؛ إما: لعلة مرضية أو لعلة مزاجية.

وغاب عن الفكر الاستعماري المعادي للسامية أن السببب الذي أدى إلى عدم تفاعل الهلينية مع التراث الشرقي ليس خاصا بالعقلية السامية، إنما يرجع إلى عوامل دولية تخص الصراع الثنائي بين الإمبراطوريتين؛ ذلك أن التيارات الثقافية التي غزت المنطقة بعضها هب من فارس، وهي دولة كانت عالمية، فترى في تراثها هذه الصفة العالمية نفسها، فكانت تكافح رومة سياسيا وثقافيا؛ لإحلال سياستها وثقافتها في كل بلد تدخله.

ورومة أيضا كانت دولة عالمية، وتراثها كذلك أيضا؛ أي كانت ترى فيه هذه الصفة العالمية؛ فكانت تكافح الفرس سياسيا وثقافيا من أجل إحلال ثقافتها في كل رقعة يمتد نفوذها عليها، والمنطقة العربية التي كانت مرة في حوزة الفرس، ومرة في حوزة الروم، فكان من الصعب أن تستقر على تراث ثقافي ذي طابع واحد؛ ولا سيما أن الذين قاموا به -وهم من آباء الكنيسة- مضطهدون سياسيا ودينيا، فكان المواطن يعزف عن هذا اللون من الثقافة الحرجة، ولم تكن في المنطقة العربية دولة ذات طابع استقلالي تبنت الدعوة إلى هذا اللون من الثقافة، أضف إلى كل ذلك: أن المادة الهلينية التي ترجمت جاءت عن الإسكندرية بعدما أتخمتها بالمباحث اللاهوتية، فلو لاحظ المستشرقون هذه الاعتبارات، وأخذوا في اعتبارهم ضعف المادة الهلينية حين فسروا إخفاقها في الشرق لما انتهوا إلى هذه النتائج من جانب.

أما موقف الذين يصمون العقلية السامية بالعجز؛ لعوامل وراثية دون النظر إلى العوامل التاريخية التي أحاطت بالتراث الثقافي وذلك من جانب آخر؛ فإن النظريات العلمية المعاصرة ذهبت به بددا.

يقول ديلاسي أوليري: بتتبع التاريخ في تحول البنية الاجتماعية التي يوجد المجتمع اليوم فيها ثلاثة عوامل رئيسة تعمل في هذا التحول وهي:

<<  <   >  >>