للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولما كانت اللغة العبرانية لغة الدين عند العبرانيين، وبها نزل الوحي على موسى فلا بد أن يكون لعلمائهم ورجال دينهم في جزيرة العرب علم بتلك اللغة وفقه بها، ولكن هذا لا يعني ضرورة كونهم كعلماء طبرية أو قيصرية في فلسطين أو بعض المواضع التي اشتهرت بعلمائها في التلمود بالعراق، ولست أستبعد أن يكون لهم علم بلغة بني إرم أيضا؛ لأن هذه اللغة كما نعلم كانت لغة العلم والثقافة قبل الميلاد وبعده، وبها كتبت كتب عدة من التلمودين، ثم إنها انتشرت بين سواد الناس حتى صارت لغة سواد يهود يتكلمون بها ولو برطانة وبلهجة خاصة هي اللهجة التي يمتاز بها سواد اليهود في كل قطر يعيشون فيه١.

ولم يظهر في يهود جزيرة العرب من حاز شهرة في العلم والفقه والتأليف والخطابة على نحو ما ظهر بين يهود العراق أو فلسطين أو مصر وإلا لاشتهر أمره وذاع خبر علماء يهود بابل وفلسطين ومصر، ولا يمكن أن تكون عزلتهم عن بقية يهود الأقطار المذكورة سببًا كافيًا في تعليل عدم شيوع اسم أحد من هؤلاء، إن قضية عزلتهم عن بقية إخوانهم في الدين هي نفسها تحتاج إلى سند يثبت وجود تلك العزلة، فمواضعهم في أعالي الحجاز على اتصال ببلاد الشام وهي لا تبعد كثيرًا عن مساكن إخوانهم في فلسطين، ثم إنهم كانوا على اتصال مستمر بهم بالتجارة، وقد كانوا يشترون حاصل بلاد الشام من خمور وحبوب وما شاكل ذلك، وينقلونه إلى يثرب، يذهبون إليها للتعامل والاتجار، فكيف يكون يهود جزيرة العرب في معزل عن غيرهم مع وجود الإسفار والتجارة، لا سيما أن أحبار طبرية كانوا يأتون إلى يهود اليمن؛ ليلقنوهم أمور الدين، ولا يستبعد أن يكون من بين أولئك الأحبار من ذهب إلى يهود يثرب أو خيبر أو تيماء. فالقضية -على ما يظهر- ليست قضية عزلة يهود جزيرة العرب عن بقية يهود وانفصالهم بذلك ثقافيًّا وعلميًّا عن بني دينهم انفصالا يؤثر في مستواهم الثقافي والعلمي فيجعلهم دون غيرهم من إخوانهم في العلم والثقافة؛ إنما يظهر هنالك جملة عوامل حالت دون نبوغ أحد فيهم، فيهود جزيرة العرب مهما قيل عنهم وعن رقيهم وارتفاع مستواهم عن مستوى من كان في جوارهم لم يكونوا في ثقافتهم وفي مستواهم الاجتماعي أرقى من الفلاحين وسكان القرى وما إليها في العراق أو فلسطين أو مصر، كما أن حالتهم المادية لم تكن على مستوى عالٍ


١ المفصل جـ٦ ص٥٥٨.

<<  <   >  >>