فالبصرة والكوفة مصرا الإسلام وقرارة الدين ومحال الصحابة والتابعين والعلماء الصالحين وجيوش المسلمين والمجاهدين، ثم نشأت بين أهل المصرين مفاخرة ومفاضلة، فقال من فضل البصرة: كان يقال الدنيا والبصرة. ووقف شيخ دهقان فقال، وهو يتأمل البصرة - أنهارها وكلاءها وأسواقها ومسجدها الأعظم ومجالسها -: قاتلك الله، فوالله ما استجمعت هكذا حتى أخربت بلاداً وبلاداً. وقال بعضهم: مررت ببعض طرق الكوفة فإذا برجل يخاصم جاراً له، فقلت: ما لكما تختصمان؟ فقال أحدهما: لا والله إلا أن صديقاً زارني فاشتهى علي رؤوساً فاشتريت له رأساً فتغدينا به فأخذت عظام الرأس فوضعتها على باب داري أتجمل بها في جيراني فأخذها هذا من بابي فوضعها على بابه وقال: أنا اشتريته.
وأنشدوا لبعض أصحاب الضياع:
زرعنا فلما سلم الله زرعنا ... ووافى عليه منجل لحصاد
بلينا بكوفي حليف مجاعة ... أضر علينا من دبا وجراد وقال الأحنف لأهل الكوفة: نحن أعذى منكم برية وأكثر منكم بحرية وأبعد منكم قرية وأكثر منكم سرية. وزعم أهل الكوفة أن البصرة أسرع الأرض خراباً وأخبثها تراباً وأبعدها من السماء وأسرعها غرقاً. قال البصريون: كيف تكون أسرع غرقاً ومغيض مائها في البحر ثم يخرج ذلك إلى البحر الأعظم ثم إذا جاوز الأبلة بعدة فراسخ يصب في دجلة سامرا ودجلة عبادان ولم يدخل البصرة ماء قط. وعن إياس بن معاوية: مثلت الدنيا على صورة طائر فالبصرة ومصر الجناحان والشام الرأس والجزيرة الجؤجؤ واليمن الذنب، وليس في الحديث ذكر الكوفة.
وسئل بعض الناس عن فقهاء الكوفة فقال: أبحث الناس لصغير وأتركه لكبير، يتكلف أحدهم القول في الدور والدين والعين وهو لم يحكم طلاق السنة. وعاب بعض الكوفيين فقهاء البصريين فقال: كان الحسن أزرق وقتادة أعمى وابن أبي عروبة أعرج وهشام أعمى وواصل أحدب وعبد الوارث أبرص ويحيى بن سعيد أحول، فقال بعض البصريين: كان علقمة أعرج وإبراهيم أعور وسليمن أعمش ورشيد أعرج وأبو معاوية أعمى ومسروق مفلوجاً وشريح سناطاً. وقال أبو عبيدة: سعوا بالوليد ثم جاءوا يعتذرون إليه وقالوا: ما رأينا بعدك خيراً منك، قال: لا والله ما رأيت أنا بعدكم شراً منكم، فلما أسهبوا في الثناء وأطنبوا في التقريظ قال: حبكم كلف وبغضكم تلف وطبعتم على الزيادة في الأشعار والتوليد في الآثار وطبعنا على حذف الفضول والتمسك بالأصول، وقال النجاشي:
إذا سقى الله قوماً صوب غادية ... فلا سقى الله أهل الكوفة المطرا
السارقون إذا ما جن ليلهم ... والدارسون إذا ما أصبحوا السورا
وأرسل الريح تذري في وجوههم ... حتى إذا لم يروا عيناً ولا أثرا
ألقى العداوة والبغضاء بينهم ... حتى يكونوا بمن عاداهم جزرا وقال اليعقوبي: أهل الكوفة على قلة أمولهم أهل تجمل وستر وكفاف وعفاف ليس في البلدان أشد عفافاً منهم ولا أشد تجملاً وهي طيبة الهواء عذبة الماء، ماؤها ماء الفرات الأعظم، وهي دار العرب ومادة الإسلام ومعدن العلم، بها أئمة القراء الفصحاء الذين ترجع عامة الناس إلى قراءتهم وفقهاؤها الفقهاء الذين عليهم المعتمد، وهم أهل العلم بالشعر وفصيح اللغة لأن أهلها عرب كلهم لم تخالطهم الأنباط ولا الفرس ولا الخزر ولا السند ولا الهند، ولا تناكحوا في هذه الأجناس فيفسدوا لغاتهم، وإن أصل الرواية ومعرفة اللغة كان فيهم، ومن رواتهم صار إلى أهل البصرة وغيرها لأن أهل الحيرة كانوا أول من دون الشعر وكتبه في أيام آل المنذر اللخميين ملوكها وكانت شعراء الجاهلية تفد عليهم مثل الأعشى والنابغة وعبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم وعمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة والمتلمس وطرفة وغيرهم، فكان آل المنذر يأمرون كتابهم من أهل الحيرة أن يكتبوا أشعارهم فأخذه الناس عنهم.
قال الجاحظ: والكتب الموضوعة في محاجة أهل الشام لأهل العراق وأهل الكوفة لأهل البصرة وأهل الجزيرة لأهل الشام وبغداد والبصرة، وهذا الشكل أهون من محاجة أهل المدينة لأهل مكة والحسنية للحسينية والمهاجرين للأنصار على ما في هذا من الخطأ