فإن الله تعالى لم يفرق في القرآن بين المهاجرين والأنصار كما لم يفرق بين الصلاة والصيام وبين الجنة والنار، كذلك القول في الحسنية والحسينية لأنهما سبط واحد وكنفس واحدة، قال: وأصحاب الفضول كثير فقد رأيت من يزعم أن منكراً أفضل من نكير ويأجوج أشرف من ماجوج وهاروت خير من ماروت، وللأمور حدود الوقوف عندها أصوب.
وسنستوفي خبر الكوفة عند الوصول إلى رسمها إن شاء الله تعالى فلنرجع الآن إلى ذكر البصرة.
واختطت البصرة في موضعها اليوم على اختلاف الناس في وقت ذلك كما تقدم فبنوا بالقصب ومكثوا كذلك يسيراً حتى أذن لهم عمر رضي الله عنه في البناء باللبن لما وقعت النار بالكوفة واحترق فيها ثمانون عروساً كما ذكرنا، فبنى الناس تزجية وبلغة لما تقدم إليهم عمر رضي الله عنه ألا يرفعوا فوق القدر، وكان عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد رضي الله عنه أن ابعث عتبة بن غزوان إلى فرج الهند يرتاد موضعاً يمصره وابعث معه ثمانين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج عتبة من المدائن سنة ست عشرة من الهجرة في سبعمائة حتى نزل على شاطئ دجلة بحيال جزيرة العرب فبنى ولم يبدأ بأول من المسجد فاختطوه ثم رموا من حواليه كله باسهم، واختطوا ما وراء منتهاها على حسب ما فعلوه بمسجد الكوفة، وأول ما بني بالبصرة سبع دساكر منها الخريبة اثنتان والزابوقة واحدة، وفي بني سليم اثنتان وفي الازد اثنتان وبني مسجدها بالقصب ثم بناه ابن عامر باللبن لعثمان بن عفان رضي الله عنه ثم بناه زياد بالآجر لمعاوية رضي الله عنه، وبنى جنبتيه وأتمه عبيد الله بن زياد، ويذكر أن المسجد الحرام أكبر من مسجد البصرة ببضع عشرة ذراعاً. وكسرت البصرة أيام خالد القسري فوجد طولها فرسخين في مثلهما والكوفة ثلثا البصرة. وأول مولود ولد فيها عبد الرحمن بن أبي بكرة رضي الله عنهما فنحر يومئذ جزوراً وأطعم أهلها وكانوا ثلثمائة أو ثلاثين ومائة. ولأهل البصرة ثلاثة أشياء ليس لأحد من أهل البلدان أن يدعيها ولا يشركهم فيها وهي النخل والشاء والحمام الهدي، أما النخل فهم أعلم قوم بها وأحذقهم بغراستها وتربيتها وإصلاحها وإصلاح عللها وأدوائها وأعرفهم بأحوالها من حين تغرس إلى حين تكمل وتستوي وأبصرهم بالتمر وخرصه وتمييزه وحزره وخزنه، وهي تجارتهم العظمى وعدتهم الكبرى، وفي البصرة من أصناف النخيل ما ليس في بلد من بلاد الدنيا. وأما الشاء فانهم اصطفوا منها العبدية المنسوبة إلى عبد القيس، وذكروا أن رجلاً من وفد عبد القيس يقال له عبادة بن عمرو الشني قال للنبي صلى الله عليه وسلم عند وفادتهم عليه ودعائه لهم: يا رسول الله إني رجل أحب الشاء، فدفع له رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلاً جليلاً من المعز وقبض بيده على أصل أذن ذلك الفحل حتى استدارت أصابعه الكريمة فصار في أذنه كالسمة، فقدم به عبادة بلاده فأطرقه شياهه فجاءت بالشاء العبدية فحملها أهل البصرة من البحرين، وهم يذكرون أن ما من شاة موصوفة كريمة منها إلا وفي أذنها حلقة كالسمة فإذا وجدوها كذلك رغبوا فيها وغالوا فيها، تبلغ الشاة منها خمسين ديناراً، وإذا كان في التيس مثل ذلك تنوفس فيه وبلغ عدة دنانير، وأخبر يحيى بن الفضيل أنه رأى تيساً بالبصرة عظيماً قد حملت عليه مزادة ماء وهي الراوية التي تحملها البغال، فبلغ بها منزل صاحبه، واشتري بأربعمائة دينار، وللشاء عندهم أنساب معروفة ويشهدون على ذلك العدول في الصحف فيقولون: شاة بني فلان أمها فلانة شاة آل فلان، وأبوها تيس آل فلان، وجدتها الفلانية، ويوصف مقدار ما تحلب من اللبن. وأما الحمام فالأمر بالبصرة جل فيه وتجاوز الحد وبلغت الحمام عندهم في الهدي أن جاءت من أقاصي بلاد الروم ومن مصر إلى البصرة وتنافسوا في اقتنائها ولهجوا بها حتى بلغ ثمن الطائر منها سبعمائة دينار، قال: وهذا ما حضرته ورأيته وشهدته. وقيل إنه بلغ بالبصرة ثمن لطائر منها جاء من خليج القسطنطينية ألف دينار، وكانت تباع البيضة من الطائر المشهور الذي قد أتاهم وأبوه من الغاية بعشرين ديناراً وعندهم دفاتر بأنساب الحمام كأنساب العرب، وكان لا يمتنع الرجل الجليل ولا الفقيه ولا العدل من اتخاذ الحمام والمنافسة فيها والاخبار عنها والوصف لأمرها والنعت لمشهورها حتى وجه أهل البصرة إلى بكار بن قتيبة البكراني قاضي مصر وهو منهم، وكان في فضله وعقله ودينه وورعه على ما لم يكن عليه قاض، بحمامات لهم مع قوم ثقات وكتبوا إليه يسألونه أن يتولى إرسالها بنفسه ففعل، وكان الحمام عندهم متجراً من التجارات لا يرون بذلك بأساً.
قال الطبري (١) : وفي سنة مائتين وست وسبعين انفرج تل في نهر البصرة يعرف بتل بني شقيق عن سبعة قبور فيها سبعة أبدان صحيحة وحوض من حجر في لون المسن فيه كتابة لا يدرى ما هي وعلى تلك الأبدان أكفان جدد لينة تفوح منها رائحة المسك، أحدهم