كره الأصمعي هذه التسمية. وكانت قرية من قرى الفرس فأخذها أبو جعفر غصباً فبنى فيها مدينة وقال الجرجاني: باغ بالفارسية هو البستان الكثير الشجر، وداذ: معطي، فمعناه معطي البساتين. قال أبو عثمان النهدي (١) : كنا نسير مع جرير بن عبد الله البجلي حتى انتهى إلى موضع فقال: أي موضع هذا؟ قالوا: قطربل، فحرك دابته ثم قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تبنى مدينة بين دجلة والدجيل والصراة وقطربل يجبى إليها خراج كل أرض وتجمع إليها جبابرة الأرض، وفي رواية يخسف بها. كذا أحسب. وسميت بغداد لأنه أهدي إلى كسرى خصي من المشرق وكان له صنم يقال له بغ فقال الخصي: بغداذي أي أعطاني إلهي يعني الصنم، ولهذا كان المتورعون يكرهون أن يسموا بغداذ بهذا الاسم ويقولون بغداد بالدال المهملة.
وكان أبو جعفر المنصور بعث رجالاً سنة خمس وأربعين ومائة يطلبون له موضعاً يبني فيه مدينة فطلبوا فلم يرضوا موضعاً حتى جاء موضعاً بالصراة وقال: هذا موضع أرضاه تأتيه الميرة من الفرات ودجلة والصراة. وكان أبو جعفر هذا وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بنى مدينة بين الكوفة والجزيرة سماها الهاشمية فأقام بها مدة إلى أن عزم على توجيه ابنه محمد المهدي لغزو الصائفة في سنة أربعين ومائة فصار إلى بغداد فوقف بها وقال: ما اسم هذا الموضع؟ فقيل: بغداد، فقال: هذه والله المدينة التي أعلمني أبي محمد بن علي أني أبنيها وأنزلها وينزلها ولدي من بعدي، ولقد غفلت عنها الملوك في الجاهلية والإسلام حتى يتم تدبير الله تعالى وحكمه في وتصح الروايات وتبين الدلالات والعلامات تأتيها الميرة في الدجلة والفرات من واسط والأبلة والأهواز وفارس وعمان واليمامة وما يتصل بذلك، وكذلك ما يأتي من الموصل وديار ربيعة وأذربيجان وأرمينية والرقة والشام والثغور ومصر والمغرب وأصفهان وكور خراسان فالحمد لله الذي ذخرها لي وأغفل عنها كل من تقدمني والله لأبنينها ثم أسكنها أيام حياتي ويسكنها ولدي من بعدي ثم لتكونن أعمر مدينة في الدنيا ثم لأبنين بعدها أربع مدن لا تخرب واحدة منهن أبداً فبناها وبنى الرافقة ولم يستتمها وبنى ملطية والمصيصة والمنصورة، فوجه في حشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل والكوفة وواسط والبصرة وأمر باختيار قوم من أهل الفضل والعدالة والعفة والأمانة والمعرفة بالهندسة، وكان فيمن أحضر الحجاج بن ارطاة وأبو حنيفة فكان أول ما ابتدئ ببنيانها في سنة خمس وأربعين ومائة ثم قسم الأرض أربعة أقسام وقلد القيام بكل ربع رجلاً من قواده ورجلاً من مواليه ورجلاً من المهندسين ونظر عند بنائها من أخذ الطالع فكان المشتري في القوس فدلت النجوم على طول ثباتها وكثرة عمارتها وانصباب الدنيا إليها، قال المخبر: ثم قلنا يا أمير المؤمنين وخلة أخرى فيها تدل النجوم على أنه لا يموت فيها خليفة، فتبسم وقال: الحمد لله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ولذلك قال بعض مداح المنصور:
إن خير القصور قصر السلام ... إذ به حل سائس الإسلام
منزل لا يزال من حل فيه ... آمناً من حوادث الأيام ولهذا قالوا: نزل بغداد سبعة خلفاء: المنصور والمهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد ومحمد الأمين وعبد الله المأمون والمعتصم فلم يمت بها واحد منهم إلا محمد الأمين فإنه قتل خارج باب الأنبار عند بستان طاهر، وانتقل المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين إلى سر من رأى، فهذا مصداق ما دلت عليه النجوم.
وإنما سميت مدينة السلام لأن دجلة كان يقال لها وادي السلام فقيل لبغداد مدينة السلام. وقيل لأنهم أرادوا مدينة الله واسمها الأول عند الناس الزوراء لانعطافها بانعطاف دجلة، وتسمى القوس زوراء لانعطافها، وكان بعضهم يسميها الصيادة لأنها تصيد قلوب الرجال، وقال رجل من أهل البصرة: مررت ببغداد في السحر فأعجبني كثرة الأذان فيها فهتف بي هاتف: ما الذي يعجبك منها، لقد فجر فيها البارحة سبعون ألفاً. ورأى أبو بكر الهذلي سفيان بن عيينة ببغداد فقال: بأي ذنوبك دخلتها؟ وقيل لرجل: كيف رأيت بغداد؟ فقال: الأرض كلها بادية وبغداد حاضرتها. وقال آخر: لو أن الدنيا خربت وخرج أهل بغداد لعمروها. وكان فراغ المنصور من بنائها ونقل الخزائن إليها والدواوين وبيوت الأموال سنة ست وأربعين ومائة وكان استتمامه لجميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين.
(١) انظر الحديث في تاريخ الخطيب: ٢٨ وما يشبه ثم تبيان الخطيب لفساد أمثال هذه الأحاديث.