للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وقال أحمد بن أبي يعقوب (١) : بغداد وسط العراق، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ولا في مغاربها سعة وجلالة وكبراً وعمارة وكثرة مياه وصحة هواء، سكنها أهل الأمصار والكور وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وآثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم، يجري في حافتيها النهران الأعظمان دجلة والفرات، فتأتيها التجارات والميرة براً وبحراً بأيسر السعي حتى تكامل فيها كل متجر من المشرق والمغرب من أرض الإسلام ومن غير أرض الإسلام، فإنه يحمل إليها من الهند والسند والصين والتبت والترك والديلم والخزر والحبشة وسائر البلدان القاصية والدانية حتى يكون بها من التجارات أكثر مما في البلدان التي خرجت التجارات منها إليها، وهي مدينة بني هاشم ودار مملكتهم ومحل سلطانهم، لم يستبد بها أحد قبلهم ولم يسكنها سواهم، وهي وسط الدنيا لأنها من الإقليم الرابع، وهو الإقليم الأوسط الذي يعتدل فيه الهواء في جميع الأزمان والفصول، فيكون الحر شديداً في أيام القيظ، والبرد شديداً في أيام الشتاء ويعتدل الفصلان الربيع والخريف. قال: وباعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء حسنت أخلاق أهلها ونضرت وجوههم وانفتقت أذهانهم حتى فضلوا الناس في العلم والفهم والنظر والتمييز والتجارات والحذق بكل مناظرة وإحكام كل مهنة وإتقان كل صناعة، فليس عالم أعلم من عالمهم ولا أروى من رواتهم ولا أجدل من متكلمهم ولا أعرب من نحويهم ولا أفصح من قارئهم ولا أمهر من طبيبهم ولا أحذق من مغنيهم ولا ألطف من صانعهم ولا أكتب من كاتبهم ولا أبين من منطيقهم ولا أعبد من عابدهم ولا أورع من زاهدهم ولا أفقه من حاكمهم ولا أخطب من خطيبهم ولا أشعر من شاعرهم ولا أفتك من ماجنهم. وكانت بغداد في أيام الأكاسرة قرية من قرى طسوج بادوريا، ومدينة الأكاسرة إذ ذاك المدائن، من مدن العراق وهي من بغداد على سبعة فراسخ وبها إيوان كسرى انوشروان، ولم تكن بغداد إلا ديراً على مصب الصراة، ولم يكن ببغداد لملك أثر قديم ولا حديث، أما ملك العرب فبدأ أولاً بالحجاز ثم استقر بدمشق من أيام معاوية رضي الله عنه لا يعرف بنو أمية غيرها، فلما جاء أبو العباس السفاح عرف فضل العراق وتوسطها في الدنيا وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله العباس فنزل الكوفة أول مدة ثم انتقل إلى الأنبار فبنى بأعلى شاطئ الفرات الهاشمية وتوفي قبل أن تستتم المدينة ثم كان من بنيان أبي جعفر لبغداد ما كان، ووضع الأساس وضرب اللبن العظام وحفرت الآبار، وعملت القناة التي من نهر كرخايا وهو الآخذ من الفرات وأجريت إلى داخل المدينة للشرب ولضرب اللبن، وجعل للمدينة أربعة أبواب: باب الكوفة وباب البصرة وباب خراسان وباب الشام، بين كل باب منها إلى الآخر خمسة آلاف ذراع بالذراع السوداء، وعلى كل باب منها بابا حديد عظيمان جليلان لا يغلق الباب الواحد منهما ولا يفتحه إلا جماعة رجال، يدخله الفارس بالعلم والرمح الطويل من غير أن يثنيه ولا يميله، وجعل عرض أساس السور تسعين ذراعاً ثم ينخرط حتى يصير في أعلاه خمس وعشرون ذراعاً وارتفاعه ستون ذراعاً مع الشرفات، وحول السور فصيل عظيم بين حائط السور وحائط الفصيل مائة ذراع، وبالفصيل أبرجة عظام وعليه الشرفات المدورة، وحد لهم أن يجعلوا عرض الشوارع خمسين ذراعاً وان يبنوا في جميع الأرباض والدروب من الأسواق والمساجد والحمامات ما يكتفي به أهل كل ناحية ومحلة، وأمرهم أن يجعلوا قطائع القواد والجند ذرعاً معلوماً وللتجار ذرعاً معلوماً يبنونه وينزلونه، ولسوقة الناس وأهل البلدان، وآخر ما بنى القنطرة الجديدة وبها أسواق كثيرة فيها سائر التجارات مادة متصلة ثم ربض وضاح مولى أمير المؤمنين المعروف بقصر وضاح حاجب خزانة السلاح وهناك أسواق، وأكثر من كان فيه في هذا الوقت القريب (٢) الوراقون أصحاب الكتب فإن به أكثر من مائة حانوت للوراقين، والكرخ السوق العظمى مادة من قصر وضاح إلى سوق الثلاثاء طولاً مقدار فرسخين، وكل تجارة لها شوارع معلومة في تلك الشوارع حوانيت، وليس يختلط قوم بقوم ولا تجاور تجارة تجارة، وأحصيت الدروب والسكك فكانت ستة آلاف درب وسكة، وأحصيت المساجد فكانت ثلاثين ألف مسجد سوى ما زاد بعد ذلك، وأحصيت الحمامات عشرين ألف حمام سوى ما زاد بعد ذلك، وحفرت القناة التي تأخذ من الفرات في عقود وثيقة من أسفلها محكمة بالصاروج والآجر من أعلاها، فتدخل المدينة وتنفذ في أكثر شوارعها، وشوارع الأرباض صيفاً وشتاء قد هندست هندسة لا ينقطع الماء منها في وقت، وقناة أخرى من دجلة على هذا المثال سماها دجيلاً، وجر لأهل الكرخ وما اتصل به نهراً يسمى نهر الدجاج لأن أصحاب الدجاج كانوا يقعدون عنده،


(١) كتاب البلدان (مع الأعلاق النفيسة) : ٢٣٣، والمؤلف يوجز أحياناً في النقل.
(٢) يعني وقت اليعقوبي، إذ لا يزال المؤلف يلخص ما يورده عنه.

<<  <   >  >>