والظاهرُ: أن القولينِ صحيحانِ، وأنَّ كلاهُما مرادٌ من الآيةِ، وحينئذٍ
فالمحسنُ: هو من لا يأتِي بكبير إلا نادرًا ثم يتوبُ منها، ومن إذا أتى
بصغيره كانتْ مغمورةً في حسناتِهِ المكفرةِ لها، ولا بُد أن لا يكونَ مصِرًّا
عليها، كما قال تعالى: (وَلَمْ يصِرّوا عَلَى مَا فَعَلوا وَهُمْ يَعْلَمون) .
ورويَ عن ابن عباسِ أنَّه قالَ: لا صغيرةَ مع إصرار، ولا كبيرةَ مع
استغفار، ورويَ مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة.
وإذا صارتِ الصغائرُ كبائرَ بالمداومةِ عليها، فلا بُدَّ للمحسنينَ من اجتنابِ
المداومةِ على الصغائر حتى يكونوا مجتنبينَ لكبائرِ الإثم والفواحشِ.
وقال اللَّهُ عزَّ وجلَّ: (وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) .
فهذه الآياتُ تضمنتْ وصفَ المؤمنينَ بقيامِهِم بما أوجبَ اللَّه عليهم منَ
الإيمانِ والتوكلِ، وإقامِ الصلاةِ، والإنفاقِ مما رزقهَمُ اللَهُ والاستجابةُ للهِ في
جميع طاعاتِهِ، ومع هذا، فهم مجتنبون كبائرَ الإثم والفواحش، فهذا هو
تحقيقُ التقوى، ووصفهم في معاملتهم للخلقِ بالمغفرةِ عندَ الغضبِ، وندبهم
إلى العفوِ والإصلاح.
وأمَّا قولُهُ: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) ، فليس منافيًا للعفوِ، فإن الانتصارَ يكونُ بإظهارِ القُدرة على الانتقامِ، ثم يقعُ العفوُ بعد ذلك، فيكونُ أتمَّ وأكملَ، قال النخعيُّ في هذهِ