للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأصحاب الآداب، حتّى شاهدتك الآن، فتهالكت على وقارك وسكون أطرافك، وسكون لفظك، وتناسب حركاتك، وفرط حيائك وناضر ماء وجهك، وتعادل كلّك وبعضك، وإنك لمن عجائب خلق الله وطرف عباده، والله ما يصدّق واحد أنّك صاحب ديوانك، وأنّ ذلك الديوان لك، مع هذا التنافي الّذي بين شعرك وبينك في جدّك. فقال أبو عبد الله: أيها الأستاذ، وكان عجبي منك دون عجبك مني، لو تقارعنا على هذا لفلجت عليك بالتعجب منك. قال: لأني قلت إذا ورد الأستاذ فسألقى منه خلقا جافيا وفظّا غليظا وصاحب رواسير وآكل كوامخ وجبليّا ديلميّا متكائبا متعاظما، حتى رأيتك الآن وأنت ألطف من الهواء، وأرقّ من الماء، وأغزل من جميل بن معمر، وأعذب من الحياة، وأرزن من الطّود، وأغزر من البحر، وأبهى من القمر، وأندى من الغيث، وأشجع من اللّيث، وأنطق من سحبان، وأندى من الغمام، وأنفذ من السّهام، وأكبر من جميع الأنام.

فقال أبو الفتح وتبسّم: هذا أيضا من ودائع فضلك «١» ، وباعث تفضّلك. ووصله وصرفه.

قال: لم يكن هذا الحديث عندي.

وأما بشر بن هارون فليس من هذه الطبقة في شيء، لكنه يقرص فيحزّ ويشتمّ فيهزّ، ويجرح فيجهز، والمدهوّون «٢» منه كثير، «وأصحابنا يستحسنون قول ابن الحجاج في الوزير حين يقول:

لله درّ الحسين من قمر ... ردّت إليه وزارة الشمس

فقال: إن قبلت هذا منهم خفت أن يقال: مادح نفسه يقرئك السلام، وما أصنع بهذا البيت وهو مضموم إلى كلّ بيت سخيف في القصيدة» .

ثم قال: وجب أن نصف قبل هذا عصابة العلماء، فلم تركنا ذكرهم ونحن لا نخلو في حديثهم من غرّة لائحة، وفائدة نافعة، وصواب زائد في العقل وفضيلة على الأدب، وحلم يزدان به في وقت الحاجة، وحكمة يستعان بها في داهمة، ورأي يكون مقيلا للتمييز عند تهجيرنا به.

قلت: أما أبو عبد الله الجعل فقد شاهدته. قال: صدقت، ولكن لم أقف على مذهبه ودخلته وسيرته في اعتقاده.

قلت: كان الرجل ملتهب الخاطر، واسع أطراف الكلام، مع غثاثة اللّفظ، وكان يرجع إلى قوّة عجيبة في التدريس، وطول نفس في الإملاء، مع ضيق صدر عند لقاء

<<  <   >  >>