للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقيل له: متى تطيب الدّنيا؟ قال: إذا تفلسف ملوكها وملك فلاسفتها.

فقال الوزير- أسعده الله-: عندي أنّ هذا الكلام مدخول، لأن الفلسفة لا تصحّ إلّا لمن رفض الدّنيا وفرّغ نفسه للدار الآخرة، فكيف يكون الملك رافضا للدّنيا وقاليا لها، وهو محتاج إلى سياسة أهلها والقيام عليها باجتلاب مصالحها ونفي مفاسدها، وله أولياء يحتاج إلى تدبيرهم وإقامة أبنيتهم والتّوسعة عليهم ومواكلتهم ومشاربتهم ومداراتهم والإشراف على سرّهم وعلانيتهم، والملك أتعب من الطبيب الذي يجمع معالجة كثيرة بضروب الأدوية المختلفة والأغذية المتبا ينة، هذا والطبيب فقير إلى تقديم النّظر في نفسه وبدنه، ونفي الأمراض والأعراض عن ظاهره وباطنه، ومن كان هكذا ومن هو أكثر منه وأشدّ حاجة وعلاقة كيف يستطيع أن يكون ملكا وحكيما؟! ولعلّ قائلا يظنّ هذا ممكنا، ويكون الملك واعيا في الحكمة بالدّعوى، وقائما بالملك على طريق الأولى، وهذا إلى التياث الأمر واختلاله واختلاطه في الملك والفلسفة أقرب منه إلى إحكام الأصل وإثبات الفرع. قال: ولهذا لم نجد نحن في الإسلام من نظر في أمر الأمّة على الزّهد والتّقى وإيثار البرّ والهدى إلا عددا قليلا، والمجوس تزعم أنّ الشريعة معرّجة عن الملك، أي الذي يأتي بها ليس له أن يعرّج على الملك، بل له أن يكل الملك إلى من يقوم به على أحكام الدّين، ولهذا قال ملكنا الفاضل: الدّين والملك أخوان، فالدين أسّ، والملك حارس، فما لا أسّ له فهو مهدوم، وما لا حارس له فهو ضائع.

فقلت له: هذا باب إن توزّع القول فيه طال، وإن رمي بالقصد جاز، وللأئمة كلام كثير في الإمامة والخلافة وما يجري مجرى النّيابة عن صاحب الديانة على فنون مختلفة، وجمل متعدّدة، إلّا أنّ النّاظر في أحوال النّاس ينبغي أن يكون قائما بأحكام الشريعة، حاملا للصّغير والكبير، على طرائقها المعروفة، لأنّ الشّريعة سياسة الله في الخلق، والملك سياسة الناس للنّاس، على أنّ الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة كانت ناقصة، والملك مبعوث، كما أنّ صاحب الدّين مبعوث، إلّا أنّ أحد البعثين أخفى من الآخر، والثاني أشهر من الأوّل.

قال- أطال الله بقاءه-: كنت أحبّ أن أعلم من أين قلت: إن الملك مبعوث أيضا؟ فإن هذه الكلمة ما ثبتت في أذني قطّ، ولا خطرت لي على بال.

قلت: قال الله عزّ وجلّ في تنزيله: إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً

[البقرة: ٢٤٧] . فعجب وقال: كأنّي لم أسمع بهذا قطّ.

ذكر للإسكندر سوء أحوال رؤساء مذهبه لمّا كان أبوه احتاز أموالهم وسلب أحوالهم. فقال: يجب للآباء على الأبناء إزالة الذّمّ عنهم، ومحو الإثم، واستعطاف القلوب عليهم، ونشر المحامد عنهم، وأمر بردّ أموالهم عليهم، وزاد في الإحسان

<<  <   >  >>