إليهم. وقال: قد بلغ من فرط شفقة الآباء على الأبناء أن يسيئوا إلى أنفسهم لتكون الإساءة سببا للإحسان إلى أولادهم، لأنّهم يرون أولادهم كأنفسهم لأنهم من أنفسهم.
فقلت: أيها الوزير، إنّي لأعجب من الإسكندر في الفعل الرّشيد والقول السّديد، فهذا المنصور أبو جعفر صاحب الشهامة والصّرامة أخذ من وجوه العراق أموالا بخواتيم أصحابها وأفقرهم، وجعلها في خزائنه بعد أن كتب على تلك الخرائط والظّروف أسماء أهلها، ثمّ وصّى المهديّ بردّها على أصحابها بعد موته، ووكّد ذلك عليه، وقال: يا بنيّ، إنما أريد بهذا أن أحبّبك إلى الناس، ففعل المهديّ ذلك، فانتشر له الصّيت وكثر الدعاء وعجّت الأصوات، وقال الناس: هذا هو المهديّ الذي ورد في الأثر. فقال: هذا عجب.
وقال سقراط: ينبغي لمن علم أنّ البدن هو شيء جعل نافعا للنفس مثل الآلة للصانع أن يطلب كلّ ما يصير البدن به أنفع وأوفق لأفعال النفس التي هي فيه، وأن يهرب من كل ما يصيّر البدن غير نافع ولا موافق لاستعمال النفس له.
قال أوميروس: لا ينبغي لك أن تؤثر علم شيء إذا عيّرت به غضبت، فإنك إذا فعلت هذا كنت أنت القاذف لنفسك.
وقال ديوجانس: من القبيح أن تتحرى في أغذية البدن ما يصلح له ولا يكون ضارّا، ولا تتحرّى في غذاء النّفس الذي هو العلم لئلّا يكون ضارّا.
وقال أيضا: من القبيح أن يكون الملّاح لا يطلق سفينته في كلّ ريح، ونحن نطلق أنفسنا في غير بحث ولا اختبار.
ذكر لنا أبو سليمان أن فيسلوفا ورد مدينة فيها فيلسوف، فوجّه إليه المدنيّ كأسا ملآى، يشير بها إلى أن الاستغناء عنه واقع عنده، فطرح القادم في الكأس إبرة، يعلمه أن معرفته تنفذ في معرفته.
وقال فيلسوف يونانيّ: التقلّب في الأمصار، والتوسّط في المجامع، والتصرّف في الصّناعات، واستماع فنون الأقوال، مما يزيد الإنسان بصيرة وحكمة وتجربة ويقظة ومعرفة وعلما.
قال الوزير: ما البصيرة؟
قلت: لحظ النفس الأمور. قال: فما الحكمة؟ قلت: بلوغ القاصية من ذلك اللحظ. قال: فما التجربة؟ قلت: كمال النفس بلحاظ مالها. قال: هذا حسن.
قال أنكساغورس: كما أن الإناء إذا امتلأ بما يسعه من الماء ثم تجعل فيه زيادة على ذلك فاض وانصبّ، ولعله أن يخرج معه شيء آخر، كذلك الذهن ما أمكنه أن يضبطه فإنه يضبطه، وإن طلب منه ضبط شيء آخر أكثر من وسعه تحيّر، ولعلّ ذلك يضيّع عليه شيئا مما كان الذهن ضابطا له، وهذا كلام صحيح، وإنّي لأتعجّب من