للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال القعقاع بن عمرو: قلت لعليّ بن أبي طالب- عليه السلام- ما حملكم على خلاف العباس بن عبد المطّلب وترك رأيه؟ وهذا يعني به أنّ العباس كان قال لعليّ- عليه السلام- في مرض النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قم بنا إليه لنسأله عن هذا الأمر، فإن كان لنا أشاعه في النّاس، وإن كان في غيرنا وصّى فينا، وكان عليّ عليه السلام أبى على عمّه العباس ولم يطاوعه. قال القعقاع: قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب- عليه السلام- في جوابه لي: لو فعلنا ذلك فجعلها في غيرنا بعد كلامنا لم ندخل فيها أبدا، فأحببت أن أكفّ، فإن جعلها فينا فهو الّذي نريد، وإن جعلها في غيرنا كان رجاء من طلب ذلك منّا ممدواد، ولم ينقطع منّا ولا من الناس. قال القعقاع: فكان النّاس في ذلك فرقتين: فرقة تحزّب للعباس وتدين له، وفرقة تحزّب لعليّ وتدين له. وما أشبهه يضعف نفوسا، ويرفع رؤوسا.

وبعد فهذا البيت خصّ بالأمر الأوّل، أعني الدّعوة والنبوّة والكتاب العزيز، فأما الدنيا فإنها تزول من قوم إلى قوم، وقد رؤي أبو سفيان صخر بن حرب وقد وقف على قبر حمزة بن عبد المطلب وهو يقول: رحمك الله يا أبا عمارة، لقد قاتلتنا على أمر صار إلينا.

فإن قال قائل: فقد وصل هذا الأمر بعد مدّة إلى آل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فالجواب:

صدقت، ولكن لمّا ضعف الدّين وتحلحل ركنه وتداوله الناس بالغلبة والقهر، فتطاول له ناس من آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعجم وبقوتهم ونهضتهم وعادتهم في مساورة الملوك، وإزالة الدّول وتناول العزّ كيف كان، وما وصل إلى أهل العدالة والطهارة والزّهد والعبادة والورع والأمانة، ألا ترى أن الحال استحالت عجما: كسرويّة وقيصريّة، فأين هذا من حديث النبوّة الناطقة، والإمامة الصادقة، هذا الربيع- وهو حاجب المنصور- يضرب من شمّت الخليفة عند العطسة، فيشكى ذلك إلى أبي جعفر المنصور، فيقول:

أصاب الرجل السنّة وأخطأ الأدب. وهذا هو الجهل، كأنّه لا يعلم أنّ السنّة أشرف من الأدب، بل الأدب كلّه في السّنّة، وهي الجامعة للأدب النبويّ والأمر الإلهي، ولكن لما غلبت عليهم العزّة، ودخلت النّعرة في آنافهم، وظهرت الخنزوانة «١» بينهم سمّوا آيين «٢» العجم أدبا، وقدّموه على السّنّة التي هي ثمرة النبوّة، هذا إلى غير ذلك من الأمور المعروفة، والأحوال المتعالمة المتداولة التي لا وجه لذكرها، ولا فائدة لنشرها، لأنّها مقرّرة في التاريخ، ودائرة في عرض الحديث.

ولما كانت أوائل الأمور على ما شرحت، وأواسطها على ما وصفت كان من نتائجها هذه الفتن والمذاهب، والتعصّب والإفراط، وما تفاقم منها وزاد ونما وعلا وتراقى، وضاقت الحيل عن تداركه وإصلاحه، وصارت العامّة مع جهلها، تجد قوّة من خاصّتها مع علمها، فسفكت الدّماء، واستبيح الحريم، وشنّت الغارات، وخرّبت

<<  <   >  >>