للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الديارات، وكثر الجدال، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال، وأصبح طالب الحقّ حيران، ومحبّ السلامة مقصودا بكلّ لسان وسنان، وصار الناس أحزابا في النّحل والأديان «١» : فهذا نصيريّ، وهذا إسحاقي، وهذا جاروديّ، وهذا قطعيّ، وهذا جبّائيّ، وهذا أشعريّ، وهذا خارجيّ، وهذا شعيبيّ، وهذا قرمطيّ، وهذا راونديّ، وهذا نجّاريّ، وهذا زعفرانيّ، وهذا قدريّ، وهذا جبريّ، وهذا لفظيّ، وهذا مستدركيّ، وهذا حارثيّ، وهذا رافضيّ، ومن لا يحصي عددها إلّا الله الذي لا يعجزه شيء، لا جرم شمت اليهود والنّصارى والمجوس بالمسلمين، وعابوا وتكلّموا، ووجدوا آجرّا وجصّا فبنوا، وسمعوا فوق ما تمنّوا فرووا.

وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزداد الأمر إلا صعوبة، ولا الناس إلا اتّباع هوى، حتى تقوم الساعة على شرار النّاس» .

وقال أيضا: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء من أمّتي» «٢» .

وقلت لابن الجلّاء الزاهد بمكة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة: ما صفة هذا الغريب؟ فقال لي: يا بنيّ هو الذي يفرّ من مدينة إلى مدينة، ومن قلّة إلى قلّة، ومن بلد إلى بلد ومن برّ إلى بحر، ومن بحر إلى برّ، حتى يسلم، وأنّى له بالسلامة مع هذه النيران التي قد طافت بالشرق والغرب، وأتت على الحرث والنّسل، فقدّمت كلّ أفوه، وأسكتت كلّ ناطق، وحيّرت كلّ لبيب، وأشرقت كلّ شارب، وأمرّت على كلّ طاعم، وإنّ الفكر في هذا الأمر لمختلس للعقل وكارث «٣» للنّفس، ومحرق للكبد.

فقال الوزير: والله إنّه لكذلك، وقد نال منّي هذا الكلام، وكبر عليّ هذا الخطب، والله المستعان.

ونظرت إليه وقد دمعت عينه ورقّ فؤاده وهو- كما تعلم- كثير التّألّه، شديد التّوقّي، يصوم الاثنين والخميس، فإذا كان أوّل رجب أصبح صائما إلى أول يوم من

<<  <   >  >>