النّفس الناطقة فإنها جوهر إلهيّ، وليست في الجسد على خاصّ ماهيته ولكنّها مدبّرة للجسد، ولم يكن الإنسان إنسانا بالرّوح، بل النّفس، ولو كان إنسانا بالرّوح لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روح ولكن لا نفس له. فأما النّفسان الأخريان اللّتان هما الشّهويّة والغضبيّة فإنّهما أشدّ اتّصالا بالرّوح منهما بالنفس، وإن كانت النفس الناطقة تدبّرهما وتمدّهما وتأمرهما وتنهاهما، فهذا أيضا يوضّح الفرق بين الرّوح والنّفس، فليس كلّ ذي روح ذا نفس، ولكن كلّ ذي نفس ذو روح، وقد وجدنا في كلام العرب مع هذا الفرق بينهما، فإن النابغة قد قال للنّعمان بن المنذر:
وأسكنت نفسي بعد ما طار روحها ... وألبستني نعمى ولست بشاهد
وقال أبو الأسود:
لعمرك ما حشاك الله روحا ... به جشع ولا نفسا شريرة
قال: هذا من الفوائد التي كنت أحنّ إليها، وأستبعد الظّفر بها، وما أنفع المطارحة والمفاتحة وبثّ الشكّ واستماحة النّفس، فإنّ التّغافل عمّا تمسّ إليه الحاجة سوء اختيار، بل سوء توفيق.
وما أحسن ما قال بعض الجلّة: توانيت في أوان التعلّم عن المسألة عن أشياء كانت الحاجة تحفز إليها والكسل يصدّ عنها، فلما كبرت أنفت من ذكرها وعرضها على من علمها عنده، فبقيت الجهالة في نفسي، وركدت الوحشة بين قلبي وفكري.
ثم جرى في حديث النفس ذكر بعض العلماء فإنّه قال: إنّ نفسك هي إحدى الأنفس الجزئيّة من النفس الكلّيّة، لا هي بعينها، ولا منفصلة عنها، كما أنّ جسدك جزء من جسد العالم لا هو كلّه ولا منفصل عنه، وقد مرّ من أمر النّفس ما فيه إيضاح تامّ واستبصار واسع، وإن كان الكلام في نعت النّفس لا آخر له، ولا وقوف عنه.
ولو قال قائل: إنّ جسدك هو كلّ العالم لم يكن مبطلا، لأنّه شبيه به، ومسلول منه، وبحقّ الشّبه يحكيه، وبحقّ الانسلال يستمدّ منه، وكذلك النّفس الجزئيّة هي النفس الكلّيّة، لأنها أيضا مشاكهة لها، وموجودة بها، فبحقّ الشّبه أيضا تحكي حالها، وبحقّ الوجود تبقى بقاءها، فليس بين الجسد إذا أضيف إلى العالم، والنّفس إذا قيست بالأخرى فرق، إلّا أنّ الجسد معجون من الطّينة، والنّفس مدبّرة بالقوّة الإلهيّة، ولهذا احتيج إلى الإحساس والموادّ، وإلى الاقتباس والالتماس حتى تكون مدّة الحياة الحسّية بالغة إلى آخرها من ناحية الجسد، ويكون مبدأ الحياة النفسيّة موصولا بالأبد بعد الأبد.
فقال- أدام الله سعادته-: لو كان ما يمرّ من هذه الفوائد الغرر والمرامي اللّطاف مرسوما بسواد على بياض، ومقيّدا بلفظ وعبارة، لكان له ريع وإتاء، وزيادة ونماء.