للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فكان الجواب، إنّ هذا غير متعذّر ولا صعب إنّ نفّس الله في البقاء، وصرف هذه الهموم الّتي تقسّم الفكر بالعوارض التي لا تحتسب، والأسباب التي لا تعرف، فأمّا والأشغال على تكاثفها، والزّمان على تلوّنه فكيف يمكن ذلك، والعجب أنّه يجري حرف من هذه الأمور الشريفة في هذه الأوقات الضيّقة.

ولقد قال أبو سليمان أمس: كيف نشاط الوزير- أدام الله سعادته- في شأنه، وكيف كان تقبّله لرسالتي إليه، وتلطّفي له، وخدمتي لدولته؟

فقلت: ما ثمّ شيء يحتاج إلى الزيادة من فهم ودراية، وبيان واستبانة، وهشاشة ورفق، واطّلاع وتأنّ، ولكنّ الوقت مستوعب بالتّدبير والنّظر، وكفّ العدوّ بالمداورة مرّة، وبالإحسان مرّة. فقال: الله يبقيه، ويرينا ما نحبّه فيه.

وقال أيضا أبو سليمان: كيف لا يكون ما تقلّده ثقيلا، وما تصدّى له عظيما، وما يباشره بلسانه وقلمه صعبا، والأولياء أعداء، والأعداء جهّال، والحضّ عليه من ورائه شديد، ونصيحه غاشّ، وثقته مريب، والشّغب متّصل، وطلب المال لا آخر له، والمصطنع مستزيد، والمحروم ساخط، والمال ممزّق، والتجديف من الطالب واقع، والتحكّم بالإدلال دائم، والاستقالة من الكبير والصغير زائدة، والكلام ليس ينفع، والتدبّر ليس يقمع، والوعظ هباء منثور، والأصل مقطوع مبتور، والسرّ مكشوف، والعلانية فاضحة، وقد ركب كلّ هواه، وليس لأحد فكّر في عقباه، واختلط المبرم بالسّحيل، وضاق على السّالك كلّ سبيل، ومنابع الفساد ومنابت التخليط كلّها من الحاشية التي لا تعرف نظام الدولة ولا استقامة المملكة؟ وإنما سؤلها تعجيل حظّ وإن كان نزرا، واستلاب درهم وإن كان زيفا، ولعمري ليس يكون الكدر إلّا بعد الصّفو، كما لا يكون الصّفو إلّا بعد الكدر، هكذا الليل والنّهار، والنور والظّلام، هذا يخلف هذا، وهذا يتلو هذا.

قال: أعني بهذا أنّه لما فقد الملك السعيد- رضي الله عنه- بالأمس حدث هذا كلّه، فإنه كان قد زمّ وخطم، وجبر وحطم، وأسا وجرح، ومنع ومنح، وأورد وأصدر، وأظهر وستر، وسهل ووعّر، ووعد وتوعّد، وأنحس وأسعد، ووهب زمانه وحياته لهذا، لأنه جعل لذّته فيه، وغايته إليه، واشتهى أن يطير صيته في أطراف الأرض فيسمع ملوكها بفطنته وحزمه، وتصميمه وعزمه، وجدّه وتشميره، ورضاه في موضع الرّضا، وسخطه في وقت السّخط، ورفعه لمن يرفعه بالحقّ، ووضعه لمن يضعه بالواجب، يجري الأمور بسنن الدّين ما استجابت، فإن عصت أخذ بأحكام السياسة التي هي الدنيا، ولمّا كانت الأمور متلبّسة بالدّين والدنيا لم يجز للعاقل الحصيف، والمدبّر اللّطيف أن يعمل التدبير فيها من ناحية الدّين فحسب، ولا من ناحية الدّنيا فقط، لأنّ دائرة الدّين إلهيّة، ودائرة الدنيا حسّيّة، وفي الإحسان أحقاد لا

<<  <   >  >>