بدّ من إطفاء ثائرتها، وصنائع لابدّ من تربيتها، وموضوعات لابد من إشالتها ومرفوعات لابدّ من إزالتها، وتدبيرات لابدّ من إخفائها، وأحوال لابدّ من إبدائها، ومقامات لابدّ من الصّبر على عوارض ما فيها، وأمور هي مسطورة في كتب السّياسات للحكماء لابدّ من عرفانها والعمل بها والمصير إليها، والزيادة عليها، فليس الخبر كالعيان، ولا الشاهد كالغائب، ولا المظنون كالمستيقن.
ثم قال:- أعني أبا سليمان- وهذا كلّه منوط بالتوفيق والتأييد اللّذين إذا نزلا من السّماء واتّصلا بمفرق السائس تضامّت أحواله على الصّلاح، وانتشرت على النّجاح، وكفي كثيرا من همومه، ثم دعا للوزير بالبقاء المديد، والعيش الرّغيد والجدّ السّعيد، وأمّن الحاضرون على ذلك، وكانوا جمّا غفيرا، لا فائدة في ذكر أسمائهم والإشارة إلى أعيانهم، وكلّهم لمّا سمعوا هذا الكلام الشريف عجبوا منه، وعوّذوه وسألوه أن ينظم لهم رسالة في السياسة، فقال: قد رسمت شيئا منذ زمان، وقد شاع وفشا، وكتب وحمل في جملة الهديّة إلى قابوس بجرجان، فهذا- أيّها الشيخ- نمط أبي سليمان وأنت عنه مشغول، قد رضيت بترك النّظر في أمره، وبذل الجاه له فيما عاد بشأنه، والله ما هذا لسوء عهدك فيه، ولا لحيلولة نيّتك عنه، ولكن لقلّة حظّه منه وإنحاء الزّمان على كلّ من يجري مجراه، مع عوز مثله في عصره، وكيف تتّهم بسوء اعتقاد وقلّة حفاظ، وتوان عن رعاية عهد، وقيام بحقّ، وأنت من فرقك إلى قدمك فضل وخير وجود ومجد وإحسان وكرم ومعونة ورفد وإنعام وتفقّد وتعهّد وبذل وعرف، ولو كان امرؤ من الذّهب المصفّى لكنته ولو كان أحد من الرّوح الصّرف لكنته، ولو كان أحد من الضّياء المحيط لكنته، فسبحان من خلقك صرفا بلا مزاج، وصفوا بلا كدر، وواحدا بلا ثان، لقد فخر بك الشّرق على الغرب، وسلّم لك بلا خصومة ولا شغب، فأدام الله لك ما آتاك وأفاض عليك من لدنه ما ينوّر مسعاك، وبلّغك السعادة العظمى في عقباك، كما بلّغك السعادة الصّغرى في دنياك.
أعرض أيّها الشّيخ هذا الحديث على ما ترى، والكلام ذو جيشان، والصّدر ذو غليان، والقلم ذو نفيان ومتدفّقه لا يستطاع ردّه، ومنبعثه لا يقدر على تسهيله، وخطبه غريب، وشأنه عجيب، وإنما يعرف دقّه وجلّه من يذوق حلوه ومرّه، ومع هذا كلّه، فإني أذكّرك أمري لتلحظه بعين الرّعاية، وأعرض عليك حديثي لتحفظه في صحيفة العناية، فلقد أمسيت بين صديق يشقّ عليّ حزنه لي، وبين عدوّ تسوءني شماتته بي، وقد صحّ عندي أنّ إقبالك عليّ يسر، كما أنّ إعراضك عنّي عسر، وأرجع إلى تمام هذين الجزأين وإنه أحرى.
وأما حديث الزّهّاد وأصحاب النّسك، فإنّه كان تقدّم بإفراد جزء فيه، وقد أثبتّه في هذا الموضع، ولم أحبّ أن أعزله عن جملته، فإن فيه تنبيها حسنا، وإرشادا