دوني، ووقع الغنى عن جاهي وكلامي ولطفي وتوصيلي، وجهلت أنّ من قدر على وصولك، يقدر على فصولك «١» ، وأن من صعد بك حين أراد، ينزل بك إذا شاء، وأن من يحسن فلا يشكر، يجتهد في الاقتصاد حتى يعذر.
وبعد، فما أطيل، ولعلّ لهب الموجدة يزداد، ولسان الغيظ يغلو، وطباع الإنسان تحتدّ، والندم على ما أسلفت من الجميل يتضاعف، ولست أنت أوّل من برّ فعقّ، ولا أنا أوّل من جفي فنقّ. وهذا فراق بيني وبينك وآخر كلامي معك، وفاتحة يأسي منك، قد غسلت يدي من عهدك بالأشنان البارقيّ، وسلوت عن قربك بقلب معرض وعزم حيّ، إلّا أن تطلعني طلع جميع ما تحاورتما وتجاذبتما هدب الحديث عليه، وتصرفتما في هزله وجدّه، وخيره وشرّه، وطيّبه وخبيثه، وباديه ومكتومه، حتى كأني كنت شاهدا معكما ورقيبا عليكما، أو متوسطا بينكما، ومتى لم تفعل هذا، فانتظر عقبى استيحاشي منك، وتوقّع قلّة غفولي عنك، وكأني بك وقد أصبحت حرّان حيران يا أبا حيّان، تأكل أصبعك أسفا، وتزدرد ريقك لهفا، على ما فاتك من الحوطة لنفسك، والنظر في يومك لغدك، والأخذ بالوثيقة في أمرك، أتظنّن بغرارتك وغمارتك، وذهابك في فسولتك «٢» التي اكتسبتها بمخالطة الصوفية والغرباء والمجتدين الأدنياء الأردياء، أنك تقدر على مثل هذه الحال، وأنام منك على حسن الظن بك، والثقة بصدرك ووردك، وأطمئن إلى حكّك وجردك وأتعامى عن حرّك وبردك، هيهات، رقدت فحلمت، فخيرا رأيت وخيرا يكون.
على هذا الحدّ كان مقطع كلامك في موجدتك، وإلى ههنا بلغ فيض عتبك ولائمتك، وفي دون ذلك تنبيه للنائم، وإيقاظ للساهي، وتقويم لمن يقبل التقويم، وقد قال الأوّل:
ألا إنّما يكفي الفتى عند زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوّم
فقلت لك: أنا سامع مطيع، وخادم شكور، لا أشتري سخطك بكلّ صفراء وبيضاء «٣» في الدنيا، ولا أنفر من التزام الذنب والاعتراف بالتقصير، ومثلي يهفو ويجمح، ومثلك يعفو ويصفح، وأنت موليّ وأنا عبد، وأنت آمر وأنا مؤتمر، وأنت متمثل وأنا ممتثل، وأنت مصطنع وأنا صنيعة، وأنت منشّئ وأنا منشّأ، وأنت أوّل وأنا آخر، وأنت مأمول وأنا آمل، ومتى لم تغفر لي الذنب البكر، والجناية العذراء، والبادرة النادرة، فقد أعنتني على ما كان منّي، ودللت على ملكك لي، وأنّك كنت مترصّدا لهذه الهفوة ومعتقدا في مقابلتها هذه الجفوة، وكرمك يأبى عليك هذا، ومثولي بين يديك خدمة لك يحظره عليك.