هذا وأنا أفعل ما طالبتني به من سرد جميع ذلك، إلّا أنّ الخوض فيه على البديهة في هذه الساعة يشقّ ويصعب بعقب ما جرى من التفاوض، فإن أذنت جمعته كلّه في رسالة تشتمل على الدقيق والجليل، والحلو والمرّ، والطريّ والعاسي، والمحبوب والمكروه.
فكان من جوابك لي: افعل. ونعم ما قلت وهو أحبّ إليّ وأقرب إلى إرادتي، وأحصر لما أريغ «١» منه، وأدخل في الحجّة عليك ولك، وأغسل للوسخ الذي بيني وبينك، وأزهر للسرّاج الذي طفئ عنّي وعنك، وأجذب لعنان الحجّة إن كانت لك، وأنطق عن العذر إن اتّضح بقولك، وإذا عزمت فتوكّل على الله، وليكن الحديث على تباعد أطرافه، واختلاف فنونه مشروحا، والإسناد عاليا متّصلا، والمتن تامّا بيّنا، واللفظ خفيفا لطيفا، والتصريح غالبا متصدّرا، والتعريض قليلا يسيرا وتوخّ الحقّ في تضاعيفه وأثنائه، والصدق في إيضاحه وإثباته، واتّق الحذف المخل بالمعنى، والإلحاق المتّصل بالهذر، واحذر تزيينه بما يشينه، وتكثيره بما يقلّله، وتقليله عمّا لا يستغنى عنه، واعمد إلى الحسن فزد في حسنه، وإلى القبيح فانقص من قبحه، واقصد إمتاعي بجمعة نظمه ونثره، وإفادتي من أوّله إلى آخره، فلعلّ هذه المثاقفة «٢» تبقى وتروى، ويكون في ذلك حسن الذكرى، ولا تومئ إلى ما يكون الإفصاح عنه أحلى في السمع، وأعذب في النّفس، وأعلق بالأدب، ولا تفصح عمّا تكون الكناية عنه أستر للعيب، وأنفى للرّيب، فإنّ الكلام صلف تيّاه لا يستجيب لكلّ إنسان، ولا يصحب كلّ لسان، وخطره كثير، ومتعاطيه مغرور، وله أرن «٣» كأرن المهر وإباء كإباء الحرون، وزهو كزهو الملك، وخفق كخفق البرق، وهو يتسهّل مرّة ويتعسّر مرارا، ويذلّ طورا ويعزّ أطوارا، ومادّته من العقل والعقل سريع الحؤول خفيّ الخداع، وطريقه على الوهم، والوهم شديد السّيلان ومجراه على اللسان، واللسان كثير الطغيان، وهو مركّب من اللّفظ اللّغويّ والصّوغ الطّباعيّ، والتأليف الصّناعيّ، والاستعمال الاصطلاحيّ، ومستملاه من الحجا، ودريه بالتمييز، ونسجه بالرّقة، والحجا في غاية النشاط وبهذا البون يقع التباين ويتّسع التأويل، ويجول الذّهن، وتتمطّى الدعوى، ويفزع إلى البرهان، ويبرأ من الشبهة، ويعثر بما أشبه الحجّة وليس بحجّة، فاحذر هذا النّعت وروادفه، واتّق هذا الحكم وقوائفه «٤» ، ولا تعشق اللّفظ دون المعنى ولا تهو المعنى دون اللفظ، وكن من أصحاب البلاغة والإنشاء في