فأول ما أبدأك به أنّني ظننت ظنا لا كيقين أنّ شيئا ممّا كنت فيه مع الوزير- أدام الله أيّامه، وقصم أعداءه- ليس مما يهمّك، ولا هو مما يقرع سمعك سماعك له، وحسبت أيضا أنّني إن بدأت بشيء منه رذلتني عليه وتنقّصتني به، وزريت عليّ فيه، وأنّك ربّما قلت: لم بدأت بما لم أسألك عنه ولم أرخّص لك فيه، هلّا كظمت على جرّتك، وطويت ما بين جنبيك وما عليّ ممّا يدور بين الصاحب وخادمه والرؤساء، والناظرين في أمور الدهماء «١» والمتصفحين لأحوال العامّة والخاصّة، ولهم أسرار وغيوب لا يقف عليها أقرب الناس إليهم، وأعزّ الناس عليهم، وأنت أيضا فلم تسألني عنه، فكان في تقديري أنّك قد عرفت وصولي في وقت دون وقت، وأنّك قد حملت أمري على الخدمة التي ليس للعلم بها فائدة، ولا في الإعراض عنها فائتة.
وإذ جرى الأمر على غير ما كان في حسابي وتلبّس بظني، فإنّي أهدي ذلك كلّه بغثاثته وسمانته، وحلاوته ومرارته، ورقّته وخثارته في هذا المكان، ثمّ أنت أبصر بعد ذلك في كتمانه وإفشائه، وحفظه وإضاعته وستره وإشاعته، وو الله ما أرى هذا أمرا صعبا إذا وصل إلى مرادك ولا كلفة شاقّة إذا أكسبني مرضاتك، وإن كان ذلك يمرّ بأشياء كثيرة ومختلفة، متعصّية غريبة، منها ما يشيط به الدم المحقون، وينزع من أجله الرّوح العزيز، ويستصغر معه الصّلب، ولا يقنع فيه بالعذاب الأدنى دون العذاب الأكبر، وإن كان فيها أيضا غير ذلك ممّا يضحك السّنّ، ويفكّه النفس، ويدعو إلى الرشاد، ويدلّ على النّصح، ويؤكّد الحرمة، ويعقد الذّمام، وينشر الحكمة، ويشرّف الهمّة، ويلقح العقل، ويزيد في الفهم والأدب ويفتح باب اليمن والبركة، وينفّق بضاعة أهل العلم في السوق الكاسدة، ويوقظ العيون الناعسة، ويبلّ الشّنّ المتغضّف، ويندّي الطّين المترشّف، ويكون سببا قويا على حسن الحال وطيب العيش، فإن هذه العاجلة محبوبة، والرّفاهية مطلوبة، والمكانة عند الوزراء بكلّ حول وقوّة مخطوبة، والدنيا حلوة خضرة وعذبة نضرة، ومن شفّ «٢» أمله شقّ عمله، ومن اشتدّ إلحاحه، توالى غدوّه ورواحه، ومن أسره رجاؤه، طال عناؤه، وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه، ظهر عجزه ونقصه.
وفي الجملة:
من لم يكن لله متّهما ... لم يمس محتاجا إلى أحد
ولابدّ من فتى يعين على الدّهر، ويغني عن كرام الناس فضلا عن لئامهم، ويذلّل قعود الصبر، ويجمّ راحلة الأمل، ويحلي مرّ اليأس، والعزلة محمودة إلّا أنّها