للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

محتاجة إلى الكفاية، والقناعة مزّة فكهة ولكنّها فقيرة إلى البلغة، وصيانة النفس حسنة إلّا أنّها كلفة محرجة إن لم تكن لها أداة تجدّها وفاشية «١» تمدّها، وترك خدمة السلطان غير الممكن ولا يستطاع إلّا بدين متين، ورغبة في الآخرة شديدة، وفطام عن دار الدنيا صعب، ولسان بالحلو والحامض يلغ.

قال ابن السمّاك: لولا ثلاث لم يقع حيف، ولم يسلّ سيف: لقمة أسوغ من لقمة، ووجه أصبح من وجه، وسلك «أنعم من سلك» ، وليس كلّ أحد له هذه القوّة، ولا فيه هذه المنّة «٢» والإنسان بشر، وبنيته متهافتة وطينته منتثرة، وله عادة طالبة، وحاجة هاتكة، ونفس جموح، وعين طموح، وعقل طفيف، ورأي ضعيف، يهفو لأوّل ريح، ويستخيل لأوّل بارق، هذا إذا تخلّص من قرناء السوء، وسلم من سوارق العقل، وكان له سلطان على نفسه، وقهر لشهواته، وقمع لهوائجه وقبول من ناصحه، وتهيّؤ في سعيه، وتبوّء في معان حظّه، وائتمام بسعادته، واستبصار في طلب ما عند ربه، واستنصاف من هواه المضلّ لعقله المرشد، هذا قليل وصعب ولو قلت معدوم أو محال في هذا الزمن العسير والدهر الفاسد، لما خفت عائقا يعوقني، ولا حسودا يردّ قولي.

قال ابن السّمّاك: الله المستعان على ألسن تصف وقلوب تعترف، وأعمال تختلف.

وقال معاوية لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث- ورآه لا يلي له عملا، ولم يقبل منه نائلا-: يا ابن أخي، هي الدنيا، فإمّا أن ترضع معنا، وإمّا أن ترتدع عنّا.

وربّما قال بعض المتكلّفين: قد قال بعض السلف ليس خيركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا من ترك الآخرة للدنيا ولكنّ خيركم من أخذ من هذه وهذه. وهذا كلام مقبول الظاهر موقوف الباطن. وربما قال آخر من المتقدمين: (اعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا، واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا) . وهذا أيضا كلام منمّق، لا يرجع إلى معنى محقّق، أين هو من قول المسيح- عليه السّلام- حين قال: الدنيا والآخرة كالمشرق والمغرب متى بعد أحدكم من أحدهما قرب من الآخر، ومتى قرب من أحدهما بعد من الآخر. وأين هو من قول الآخر: الدنيا والآخرة ضرّتان، متى أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، ومتى أسخطت إحداهما أرضيت الأخرى.

وهذا لأنّ الإنسان صغير الحجم، ضعيف الحول، لا يستطيع أن يجمع بين شهواته وأخذ حظوظ بدنه وإدراك إرادته، وبين السعي في طلب المنزلة عند ربّه بأداء فرائضه، والقيام بوظائفه، والثبات على حدود أمره ونهيه.

<<  <   >  >>