فإن صفق وجهه وقال: نعمل تارة لهذه الدار وتارة لتلك الدار، فهذا المذبذب الّذي لا هو من هذه ولا من هذه، ومن تخنّث وتليّث لم يكن رجلا ولا امرأة، ولا يكون أبا ولا أما، وهذا كما نرى.
ونرجع فنقول: ونعوذ بالله من الفقر خاصّة إذا لم يكن لصاحبه عياذ من التقوى، ولا عماد من الصبر، ولا دعامة من الأنفة، ولا اصطبار على المرارة.
وقد بلينا بهذا الدهر الخالي من الربّانيين الذين يصلحون أنفسهم ويصلحون غيرهم بفضل صلاحهم، الخاوي من الكرام الذين كانوا يتّسعون في أحوالهم، ويوسّعون على غيرهم من سعتهم، وكانوا يهتمّون بذخائر الشكر المعجّل في الدنيا، ويحرصون على ودائع الأجر المؤجّل في الأخرى، ويتلذّذون بالثناء، ويهتزّون للدعاء، وتملكهم الأريحيّة عند مسألة المحتاج، وتعتريهم الهزّة معها والابتهاج وذلك لعشقهم الثناء الباقي، والصنيع الواقي، ويرون الغنيمة في الغرامة، والرّبح في البذل، والحظّ في الإيثار، والزيادة في النقص، أعني بالزيادة: الخلف المنتظر من الله، وبالنقص: العطاء، ورأيت الناس يعيبون ابن العميد حين قال: أنا أعجب من جهل الشاعر الذي قال:
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
قال: ولو كان هذا صحيحا كان لا ينبغي أن يكتسب المال، لأنّه ليس في ترك كسبه أكثر من إخراجه بالإنفاق. هذا لقولهم بحكمته وعقله وتحصيله، وصواب الجاهل لا يستحسن كما يستقبح خطأ العاقل.
نعم، وكانوا إذا ولوا عدلوا، وإذا ملكوا أفضلوا، وإذا أعطوا أجزلوا، وإذا سئلوا أجابوا وإذا جادوا أطابوا، وإذا عالوا صبروا، وإذا نالوا شكروا، وإذا أنفقوا واسوا، وإذا امتحنوا تأسّوا، وكانوا يرجعون إلى نقائب ميمونة، وإلى ضرائب «١» مأمونة، وإلى ديانات قويّة، وأمانات ثخينة، وكان لهم مع الله أسرار طاهرة، وعلانية مقبولة، ومع عباد الله معاملة جميلة، ورحمة واسعة ومعدلة فاشية، وكانت تجارتهم في العلم والحكمة، وعادتهم جارية على الضّيافة والتّكرمة، وكانت شيمتهم الصفح والمغفرة وربحهم من هذه الأحوال النجاة والكرامة في الأولى والعاقبة، وكانوا إذا تلاقوا تواصوا بالخير، وتناهوا عن الشرّ، وتنافسوا في اتّخاذ الصنائع، وادّخار البضائع (أعني صنائع الشكر، وبضائع الأجر) .
فذهب هذا كلّه، وتاه أهله، وأصبح الدّين وقد أخلق لبوسه، وأوحش مأنوسه،