للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قيل له: هل يتساوى الكون والفساد فيبقى الشيء على ما هو به؟ فقال: أمّا على الحقيقة فلا، ولكن على السّعة، لأنّ الكون متصل بالفساد، إلّا أنهما يخفيان في مبادئهما حتى إذا امتدّ الآنان فصار آنا واحدا فحينئذ بان الكون من الفساد، وبان الفساد من الكون، وهذا بالاعتبار الحسّيّ، فأمّا العقل فيرتفع عن هذا، لأنّه يعلم حقيقة الشّيء على ما هو عليه، ولا يقبل من الحسّ حكما، ولا يحتكم إليه أبدا.

وإنّما الحسّ عامل من عمّال العقل. والعامل يجور مرّة ويعدل مرّة، فأمّا الذي هذا هو عامله فهو الذي يتعقّبه، فإن وجده جائرا أبطل قضاءه، وإن وجده عادلا أمضى حكمه، ومتى استشير الحسّ في قضايا العقل فقد وضع الشيء في غير موضعه، ومتى استشير العقل في أحكام الحسّ فقد وضع الشيء في موضعه.

قيل: فما الصّورة؟ قال: الّتي بها يخرج الجوهر إلى الظّهور عند اعتقاب الصّور إيّاه.

قال أبو سليمان: هذه الفتيا جزافيّة الصّور أصناف: إلهية وعقليّة، وفلكيّة وطبيعيّة، وأسطقسّيّة وصناعيّة، ونفسيّة ولفظيّة، وبسيطة ومركّبة، وممزوجة وصافية، ويقظيّة ونوميّة وغائبيّة وشاهديّة.

ثم اندفع فقال: أما الصّورة الإلهيّة- وهي أعلاها في الرّتبة والحقيقة. وهي أبعد منّا في التّحصيل إلّا بمعونة الله تعالى- فلا طريق إلى وصفها وتحديدها إلّا على التّقريب، وذلك أنّ البساطة تغلب عليها، إلا أنّها مع ذلك ترسم بأن يقال: هي التي تجلّت بالوحدة، وثبتت بالدّوام، ودامت بالوجود.

وأمّا الصّورة العقليّة فهي شقيقة تلك، إلا أنها دونها بالانحطاط الحسّي، ولكن بالمرتبة اللّفظيّة، وليس بين الصّورتين فصل إلّا من ناحية النّعت، وإلّا فالوحدة شائعة وغالبة وشاملة، لكن الصّورة الإلهيّة تلحظ لحظا، ولا يلفظ بوصفها لفظا، لمشاكهتها الصّورة النّفسيّة، فإذا كان كذلك أمكن أن ترسم فيقال: هي الّتي تهدي إلى العاقل ثلجا في الحكم، وثقة بالقضاء، وطمأنينة للعاقبة، وجزما بالأمر، ودحوضا للباطل، وبهجة للحقّ ونورا للصّدق.

والفرق بين الصورة الإلهيّة والصّورة العقليّة أنّ الصورة ترد عليك وتأخذ منك، والصورة العقليّة تصل إليك فتعطيك، فالأولى بقهر وقدرة، والثانية برفق ولطافة، وتلك تحجبك عن لم وكيف، وهذه تفتح عليك لم وكيف، وتلك لا تنحى ولا تطلب، وهذه يسعى إليها، ويسأل عنها وتوجد، وأنوار الصّورة العقليّة الإلهيّة بروق تمرّ، وأنوار الصّورة شموس تستنير، وتلك إذا حصلت لك بالخصوصيّة لا نصيب لأحد منها، وهذه إذا حصلت لك فأنت وغيرك شرع فيها، وتلك للصّون والحفظ، وهذه للبذل والإفاضة.

وأمّا الصّورة الفلكيّة فداخلة تحت الرّسم بالعرض، وللوهم فيها أثر كثير،

<<  <   >  >>