ولأنّها مأخوذة من الجسم الأعظم صارت مشاكهتها مقسومة بين البسيط الّذي لا تركيب فيه البتّة، وبين المركّب الّذي لا يخلو من التّركيب البتّة، ولهذا صار تأثير الفلك في المتحرّكات عنه أشدّ من تأثّر الفلك عن المحرّك له، وكأنّه أوّل محرّك متحرّك، وليس هكذا ما علا عنه.
والفلك بما جسم منقوص الصّورة، وبما هو دائم الحركة شريف الجوهر.
وأمّا الصّورة الطبيعيّة فتعلّقها بالمادّة القابلة لآثارها بحسب استعدادها لها، فلذلك ما هي مزحزحة عن الدّرجة العليا، وعشقها للقابل منها أشدّ من عشقها للمفيض عليها، ولهذا أيضا كانت منافعها ممزوجة، ومضارّها بحتة، وهي تجمع بين الحكمة والبله، وبين الجيّد والرّديء، ولو سألتها لم أنت ضارّة نافعة؟ لقالت:
بعدت، فلما بعدت صوّبت وصعّدت.
وسمعت أبا النّفيس يقول في وصف الطّبيعة كلاما له رونق في النّفس وأنا أصل هذه الجملة به.
قال: أيّتها الطبيعة، ما الّذي أقول لك، وبأيّ شيء أؤاخذك، وكيف أوجّه العتب عليك؟! فإنّك قد جمعت أمورا منكرة، وأحوالا عسرة، لا يفي نظامك فيها بانتثارك عليها، ولك بوادر ضارّة، وغوائل خفيّة تبدو منك، وتغور فيك، وترجع إليك، حتى إذا قلنا في بعضها: إنّك حكيمة، قلنا في بعضها: إنّك سفيهة، فالبله منك مخلوط باليقظة، والاستقامة فيك عائدة بالاعوجاج، وفيك فظائع ونزائع، وقوارع وبدائع، لأنّ حركاتك تستّن مرّة استنانا تعشقين عليه، وتحبّين من أجله، وتزيغ أخرى زيغا تمقتين عليه، وتبغضين بسببه، وربّما كانت حركتك نقضا للبناء المحكم والصّورة الرّائعة، والنظام البهيّ، وربما كانت بناء للمنتقض، وتجديدا للبالي وإصلاحا للفاسد، حتى كأنّك عابثة بلا قصد، وعائثة على عمد، وعلى جميع صفاتك من الواصفين لك لم يعلم من ظنّ، ولا رأى من تخيّل، ولا بعد لفظ من تأويل، ولا حال معنى عن توهّم، ولا أسفر حقّ عن باطل، ولا تميّز بيان عن تمويه، ولا وضح نصح من غشّ، ولا سلم ظاهر من تناقض، ولا خلت دعوى من معارض، فلهذا وأشباهه واجهتك بخطابي، وعرضت عليك ما في نفسي، فبالّذي أنت به قائمة، وبالّذي أنت به موجودة، وبالذي أنت له منقبلة، وإليه منساقة، إلّا خبّرتني عنك، وشفيت غليلي منك، ونعتّ لي غيب شأنك، وجعلت الخبر عنك كعيانك، وإنما ضرعت إليك هذا الضّرع، وعرضت عليك هذا الوجع، لأنّك جارتي وصاحبتي، وليس بيني وبينك حجاب إلّا ما هو عدوّ منك أو منّي، أعني بما هو منك لطف سحرك، وخفاء سرّك، وأعني بما هو منّي ما أعجز عن استبانته واستيضاحه إلّا بقوّة الإله الذي هو سبب لحركتك في أفانين تصرّفك، وأعاجيب عدلك وتحيّفك.