وكان إذا بلغ هذا الحدّ وما شاكله أخذ في كلام كالجواب على طريق التأنيس والتّسلية والاستراحة، وهذا بالواجب، لأن الإنسان بسبب أغراضه المجهولة، وعوارضه الفاجئة الباغتة من الغيب والشّهادة يفتقر افتقارا شديدا إلى هذه النّعوت التي تقدّم ذكرها، وهذا كالدّاء والدّواء! وليس لأحد أن يتهكّم فيقول: هلّا ارتفع الدّاء أصلا فيستغنى عن الدّواء جملة، وهلّا وقع الدّواء أبدا على الدّاء ونفاه وصرفه. فإنّ هذا كلام مدخول، من عقل كليل، ولعمري إنّ من جهل القسمة الإلهيّة في الأزل بحسب شهادة العقل لعب به الوسواس في هذه المواضع، وظنّ أنّ الأمر لو كان بخلاف ما هو عليه كان أولى وأتمّ وأوثق وأحكم، يا ويحه! من أين يوجب هذا الحكم؟ وبأيّ شيء يثبت هذا القضاء؟ وكيف يثق بهذا الوهم؟
وكان يقول أيضا: إنّ الطّبيعة تقول: أنا قوّة من قوى البارئ، موكّلة بهذه الأجسام المسخّرة حتّى أتصرّف فيها بغاية ما عندي من النّقش والتّصوير والإصلاح والإفساد اللّذين لولاهما لم يكن لي أثر في شيء، ولا لشيء أثر منّي، وكان وجودي وعدمي سواء، وحضوري وغيابي واحدا، ولو بطلت بطل ببطلاني ما أنا به، وهذا زائف من القول، وخطل من الرّأي، وتحكّم من الظّانّ.
ولو احتمل إيراد كلّ ما كان يتنفّس به هذا الشيخ في حال نشاطه وانقباضه، لكان ذلك مرادا فسيحا، ومشرعا واسعا، ولكنّ ذلك متعذّر لعجزي عن الوفاء به، ولأنّ هذه الرّسالة تتقلّص عنه، وإنما أجول في هذه الأكناف لكلفي بالحكمة كيف دارت العبارة بها، وأمكنت الإشارة إليها، لا على التّقصّي لها وبلوغ الغاية منها، ومن يقدر على ذلك؟ ومن يحدّث نفسه بذلك؟ العالم أبعد غورا وأعلى قلّة وأثقل وزنا وأحدّ غربا وألطف أعراضا وأكشف أجراما وأعجب تركيبا وأغرب بساطة، من أن يأتي عليه إنسان واحد، وكلّ من كان في مسكه، وإن بلغ الغاية في دقّة الذّهن وحسن البيان وبلاغة اللّفظ، واستنباط الغامض في حاضره وغائبه، هذا ما لا يتوهّمه العقل.
وأنا أعوذ بالله من هذه الدّعوى، وأسأله أن يلهمني الشّكر على ما فتح وشرح، وهدى إليه ومنح، وأطلع عليه وندح، فإنّ الشّكر قرع لباب المزيد، والمزيد باعث على الشّكر الجديد، والشّكر- وإن خلص بالعرفان، وجرى بضروب البيان على اللّسان- فإنّه يقصر عن تواتر النّعمة بعد النّعمة، وتظاهر الفائدة بعد الفائدة.
وأما الصّورة الأسطقسّيّة، فهي لائحة لكلّ ذي حسّ بالتّناظم الموجود فيها، والتّباين الآخذ بنصيبه منها، ولها انقسام إلى آحادها، أعني أنّ صورة الماء مباينة لصورة الهواء، وكذلك صورة الأرض مخالفة لصورة النّار، فتحديدها بما يقرّرها مع غوصها في كلّ أسطقسّ شديد، واللّفظ لا يصفو، والمراد لا ينماز.