للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان ابن البقّال يجهر بهذا القول، فقلت له مرّة: لم ملت إلى هذا المذهب؟

فقال: لأني وجدت الأدلّة متدافعة في أنفسها، ورأيت أصحابها يزخرفونها ويموّهونها لتقبل منهم، وكانوا كأصحاب الزّيوف الّذين يغشّون النّقد لينفق عندهم، وتدور المغالطة بينهم. فقلت له: أما تعرف بأنّ الحقّ حقّ والباطل باطل؟ قال: بلى، ولكن لا يتبيّن أحدهما من الآخر. قلت: أفلأنّه لا يتبيّن لك الحقّ من الباطل تعتقد أنّ الحقّ باطل وأنّ الباطل حقّ؟ قال: لا أجيء إلى حقّ أعرفه بعينه فأعتقد أنّه باطل، ولا أجيء أيضا إلى باطل أعرفه بعينه فأعتقد أنّه حقّ، ولكن لمّا التبس الحقّ بالباطل والباطل بالحق قلت إنّ الأدلّة عليهما ولهما متكافئة، وإنها موقوفة على حذق الحاذق في نصرته، وضعف الضّعيف في الذّبّ عنه. قلت: فكأنّك قد رجعت عن اعترافك بالحقّ أنّه حقّ، وبالباطل أنّه باطل. قال: ما رجعت. قلت: فكأنّك تدّعي الحقّ حقّا جملة والباطل باطلا جملة من غير أن تميّز بالتفصيل. قال: كذا هو. قلت: فما نفعك بالاعتراف بالحقّ وأنّه متميّز عن الباطل في الأصل، وأنت لا تميّز بينهما في التفصيل؟

قال: والله ما أدري ما نفعي منه. قلت: فلم لا تقول: الرأي أن أقف فلا أحكم على الأدلّة بالتّكافؤ، لأنّ الباطل لا يقاوم الحقّ، والحقّ لا يتشبّه بالباطل، إلى أن يفتح الله بصري فأرى الحقّ حقّا في التفصيل، والباطل باطلا على التّحصيل، كما رأيتهما في الجملة، وأنّ الّذي فتح بصري على ذلك في الأوّل هو الّذي غضّ بصري عنه في الثاني؟ قال: ينبغي أن أنظر فيما قلت. فقلت: انظر إن كان لك نظر، ولا تتكلّف النّظر ما دام بك عمى أو عشا أو رمد.

وحكى لنا أبو سليمان قال: وصف لنا بعض النّصارى الجنّة فقال: ليس فيها أكل ولا شرب ولا نكاح. فسمع ذلك بعض المتكلّمين فقال: ما تصف إلّا الحزن والأسف والبلاء.

وقال أبو عيسى الورّاق- وكان من حذّاق المتكلّمين-: إن الآمر بما يعلم أنّ المأمور لا يفعله سفيه، وقد علم الله من الكفّار أنّهم لا يؤمنون، فليس لأمرهم بالإيمان وجه في الحكمة.

قال أبو سليمان: انظر كيف ذهب عليه السّرّ في هذه الحال، من أين أتوا، وكيف لزمتهم الحجّة.

وقال أبو عيسى أيضا: المعاقب الّذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه، ولا يستصلح به غيره، ولا يشفي غيظه بعقوبته جائر، لأنّه قد وضع العقوبة في غير موضعها. قال: لأنّ الله تعالى لا يستصلح أهل النار ولا غيرهم، ولا يشفي غيظه بعقوبتهم، فليس للعقوبة وجه في الحكمة. هذا غرض كتابه الّذي نسبه إلى الغريب المشرقيّ.

<<  <   >  >>