للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقال أبو سعيد الحضرميّ- وكان من حذاق المتكلّمين ببغداد، وهو الذي تظاهر بالقول بتكافؤ الأدلّة-: إن كان الله عدلا كريما جوادا عليما رؤوفا رحيما فإنّه سيصيّر جميع خلقه إلى جنّته، وذلك أنّهم جميعا على اختلافهم يجتهدون في طلب مرضاته، فيهربون من وقع سخطه بقدر علمهم ومبلغ عقولهم، وإنّما تركوا اتّباع أمره لأنّهم خدعوا، وزيّن لهم الباطل باسم الحقّ، ومثلهم في ذلك مثل رجل حمل هديّة إلى ملك، فعرض له في الطريق قوم شأنهم الخداع والمكر والاستلال، فنصبوا له رجلا، وسمّوه باسم الملك الذي كان قصده فسلّم الهدية إليهم، فالملك الّذي قصده إن كان كريما فإنّه يعذره ويرحمه ويزيد في كرامته وبرّه حين يقف على قصّته، وهذا أولى به من أن يغضب عليه ويعاقبه.

وقال أبو سليمان: ذكروا أنّ رجلا رأى قوما يتناظرون، فجلس إليهم فرآهم مختلفين، فأقبل على رجل منهم فقال: أتلزمني أن أقول بقولك وأنا لا أعلم أنّك محقّ؟ فإن قلت: نعم، قلت لك: إنّ بعض جلسائك يدعوني إلى مخالفتك واتّباعه، وليس عندي علم بالمحقّ منكم، وإن ألزمتني أن أتّبع كلّكم فهذا محال، وإن قلت:

لا يلزمك أن تتّبعني ولا غيري إلّا بعد العلم بالمحقّ منكم، لم يخل العلم بذلك من أن يكون فعلي أو فعل غيري، فإن كان العلم فعلا لغيري فقد صرت مضطرّا، ولا أستوجب عليه حمدا ولا ذمّا وإن كان الفعل لي فمن أعظم جهالة ممّن يفعل ما يلزمه الأمر والنهي به، وإن قصّر صيّره ذلك إلى العطب والهلاك، مع أنّ هذا القول يؤدّي إلى أن أكون أنا المعترض على نفسي، لأنه إنما يلزمني ذلك إذا علمت أنّي أقدر أن أعلم وألّا أعلم.

وحكى لنا أيضا قال: سئل عندنا رجل من المتحيّرين بسجستان فقيل له: ما دليلك على صحّة مقالتك؟ فقال لا دليل ولا حجّة. فقيل له: وما الّذي أحوجك إلى هذا؟ قال: لأنّي رأيت الدليل لا يكون إلّا من وجوه ثلاثة:

إمّا من طريق النبوّة والآيات، فإن كان إنما يثبت من هذه الجهة فلم أشاهد شيئا من ذلك ثبتت عندي مقالته.

وإما أن يكون ينبت بالكلام والقياس فإن كان إنما يثبت بذلك فقد رأيتني مرّة أخصم ومرّة أخصم، ورأيتني أعجز عن الحجّة فأجدها عند غيري، وأتنبّه إليها من تلقاء نفسي بعد ذلك، فيصحّ عندي ما كان باطلا، ويفسد عندي ما كان صحيحا، فلمّا كان هذا الوصف على ما وصفت لم يكن لي أن أقضي لشيء بصحّة من هذه الجهة، ولا أقضي على شيء بفساد لعدم الحجّة.

وإمّا أن تكون ثبتت بالأخبار عن الكتب فلم أجد أهل ملّة أولى بذلك من

<<  <   >  >>