للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

غيرهم، ولم أجد إلى تصديق كلّهم سبيلا. وكان تصديق الفرقة الواحدة دون ما سواها جورا، لأنّ الفرق متساوية في الدّعوى والحجّة والذّبّ والنّصرة.

فقيل له: فلم تدين بدينك هذا الذي أنت على شعاره وحليته، وهديه وهيئته؟

فقال: لأنّ له حرمة ليست لغيره، وذاك أنّي ولدت فيه، ونشأت عليه، وتشرّبت حلاوته، وألفت عادة أهله، فكان مثلي كمثل رجل دخل خانا يستظلّ فيه ساعة من نهار والسّماء مصحية، فأدخله صاحب الخان بيتا من البيوت من غير تخبّر ولا معرفة بصلاحه، فبينا هو كذلك إذ نشأت سحابة فمطرت جودا، ووكف البيت، فنظر إلى البيوت التي في الفندق فرآها أيضا تكف، ورأى في صحن الدّار ردغة، ففكّر أن يقيم مكانه ولا ينتقل إلى بيت آخر ويربح الرّاحة، ولا يلطّخ رجليه بالرّدغة والوحل اللّذين في الصّحن، ومال إلى الصّبر في بيته، والمقام على ما هو عليه، وكان هذا مثلي، ولدت ولا عقل لي، ثم أدخلني أبواي في هذا الدّين من غير خبرة منّي، فلمّا فتّشت عنه رأيت سبيله سبيل غيره، ورأيتني في صبري عليه أعزّ منّي في تركه، إذ كنت لا أدعه وأميل إلى غيره إلّا باختيار منّي لذلك، وأثرة له عليه، ولست أجد له حجّة إلّا وأجد لغيره عليه مثلها.

وحكى لنا ابن البقّال- وكان من دهاة الناس- قال: قال ابن الهيثم: جمع بيني وبين عثمان بن خالد، فقال لي: أحبّ أن أناظرك في الإمامة، فقلت: إنّك لا تناظرني، وإنّما تشير عليّ، فقال: ما أفعل ذلك، ولا هذا موضع مشورة، وإنما اجتمعنا للمناظرة، فقلت له: فإنّا قد أجمعنا على أنّ أولى الناس بالإمامة أفضلهم، وقد سبقنا القوم الذين يتنازع في فضلهم، وإنما يعرف فضلهم بالنّقل والخبر، فإن أحببت سلّمت لك ما ترويه أنت وأهل مذهبك في صاحبك، وتسلّم لي ما أرويه أنا وفرقتي في صاحبي، ثم أناظرك في أيّ الفضائل أعلى وأشرف، قال: لا أريد هذا، وذاك أني أروي مع أصحابي أنّ صاحبي رجل من المسلمين يصيب ويخطئ، ويعلم ويجهل، وأنت تقول في صاحبك: إنّه معصوم من الخطأ، عالم بما يحتاج إليه.

فكيف أرضى هذه الجملة؟ قلت: فأقبل كلّ شيء ترويه أنت وأصحابك في صاحبي من حمد أو ذمّ، وتقبل أنت كلّ شيء أرويه أنا وأصحابي في صاحبك من حمد أو ذمّ، قال: هذا أقبح من الأوّل، وذلك أني وأصحابي نروي أنّ صاحبك مؤمن خيّر فاضل، وأنت وأصحابك تروون أنّ صاحبي كافر منافق، فكيف أقبل هذا منك وأناظرك عليه؟

قال ابن الهيثم: فلم يبق إلّا أن أقول: دع قولك وقول أصحابك، واقبل قولي وقول أصحابي، قال: ما هو إلّا ذاك، قلت: هذه مشورة، وليست مناظرة.

قال: صدقت.

<<  <   >  >>