للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويتّهم غده لما جناه في أمسه، لأن الملك السعيد ساسهم، وقوّم زيغهم، وقلّم أظفارهم، وشغلهم بالحاجة عن البطر والأشر، وبالكفاية عن القلق والضجر، وتقدّم إليهم بترك الخوض فيما لا مرجوع له بخير، وكانوا لا يشكرون الله على نعمته عليهم به، وإحسانه إليهم بمكانه، فسلبوه فتنفّس خناقهم، واتسع نطاقهم، فامتطى كلّ واحد هواه، ويوشك أن يقع في مهواه.

قال: وههنا أشياء أخرى غير هذه، ولكن من يسمع ويقبل؟ ومع هذا فالأمور صائرة إلى مصايرها، كما أنّها صادرة عن مصادرها.

فقال له ابن جبلة: ما عندي إلا أن الوزير- أبقاه الله- عارف بهم ومستبطن لأمرهم، مع العشرة القديمة، والملابسة المتصلة، والخبرة الواقعة، ولكن لابدّ لمن كان في محلّه ورفعته من جماعة يقرّبهم، ويرجع إليهم ويسمع منهم، وينظر بأعينهم، ويصغي بآذانهم، ويتناول بأيديهم.

فقال له مجاوبا: إن كان عارفا بهم، ومستبطنا لأمرهم، وخبيرا بشأنهم، فلم سلّطهم وبسطهم، وحدّد أنيابهم، وقوّى أسنانهم، وفتح أشداقهم، وطوّل أعناقهم وقطّع أرباقهم، وأبطرهم فأسكرهم، حتى صاروا يجهلون أقدارهم، وينسون ما كانوا فيه من القلّة والذلّة؟ هلّا رتّب كلّ واحد منهم فيما تظهر به كفايته ولا يرفعه إلى ما يظن معه الظّنّ الفاسد، ولم يضحك في وجوههم، ويغضي على جنايتهم؟ أما بلغه أنّ ابن يوسف قال:

تشبّثه بابن شاهويه لأنّه قد أعدّه للهرب إلى القرامطة إن دهمه أمر؟ وأنسه ببهرام إنما هو لاستمداد الفساد منه، وتقديمه لابن طاهر للسرقة على يده، وفرحه بابن مكيخا للسخرية به، وتقريبه لابن الحجّاج للسّخف، ولهجه بابن هارون للهزء واللّعب.

قال له ابن جبلة: من أراد أن يحسّن القبيح عند رضاه، ويقبّح الحسن عند سخطه فعل، ولا يخلو أحد تهبّ ريحه، ويعلو شأنه، وينفذ أمره ونهيه من حاسد وقارف، ومدخل «١» ومرجف، على هذه الأمور بنيت الدار، وعليها جرت الأقدار، إن كنت تنكر هذا الرهط، فاعرف له الرهط الآخر، فإنّك تعرف بذلك حسن اختياره وجميل انتقائه ومحمود رأيه.

قال: من هم؟

قال: أبو الوفاء المهندس، وابن زرعة المتفلسف، وابن عبيد الكاتب، ومسكويه، والأهوازيّ والعسجدي. فأين هؤلاء الغامطة؟ «٢» قوم همّهم أن يأكلوا رغيفا ويشربوا قدحا، لا هم ممن يقتبس من علمهم ولا هم يتكلفون له نصحا، وهيبته

<<  <   >  >>