الغالبة، والموالاة المقبولة في السّمع، الخالبة للقلب العابثة بالروح، الزائدة في العقل، المشعلة للقريحة، الموقوفة على فضل الأدب، الدالّة على غزارة المغترف، النائية عن عادة كثير من السلف والخلف، وابن عبّاد بلي في هذه الصناعة بأشياء كلّها عليه لا له، وخاذلته لا ناصرته، ومسلمته لا منقذته، فأوّل ما بلي به أنّه فقد الطبع، وهو العمود، والثاني العادة وهي المؤاتية، والثالث الشغف بالجاسي «١» من اللفظ وهو الاختيار الرديء، والرابع تتبّع الوحشيّ، وهو الضلال المبين، والخامس الذّهاب مع اللفظ دون المعنى، والسادس استكراه المقصود من المعنى، واللفظ على النّبوة، والسابع التعاظل المجهول بالاعتراض، والثامن إلف الرسوم الفاسدة من غير تصفّح ولا فحص، والتاسع قلة الاتعاظ بما كان- للثقة الواقعة في النفس- من الفائت، والعاشر تنفيق المتاع بالاقتدار في سوق العزّ، وهذه كلّها سبل الضلالة، وطرق الجهالة. قال: وليس شيء أنفع للمنشئ من سوء الظنّ بنفسه، والرجوع إلى غيره وإن كان دونه في الدرجة وليس في الدنيا محسوب إلا وهو محتاج إلى تثقيف، والمستعين أحزم من المستبدّ، ومن تفرّد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص، وقد يستعجم المعنى كما يستعجم اللفظ، ويشرد اللفظ كما يندّ المعنى، وينتثر النظم كما ينتظم النثر وينحل المعقّد كما يعقّد المنحلّ.
والمدار على اجتلاب الحلاوة المذوقة بالطبع، واجتناب النّبوة الممجوجة بالسمع، والقريحة الصافية قد تكدر، والقريحة الكدرة قد تصفو، وشرّ آفات البلاغة الاستكراه، وأنصح نصائحها الرضا بالعفو. وقال: كان ابن المقفّع يقف قلمه كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنّ الكلام يزدحم في صدري فيقف قلمي لأتخيّره.
والكتاب يتصفّح أكثر من تصفّح الخطاب، لأن الكاتب مختار والمخاطب مضطرّ، ومن يرد عليه كتابك فليس يعلم أسرعت فيه أم أبطأت وإنّما ينظر أصبت فيه أم أخطأت، وأحسنت أم أسأت، فإبطاؤك غير إصابتك كما أنّ إسراعك غير معفّ على غلطك.
قال: هذا كله مفيد فأين هو من غيره من أصحابنا؟
قلت: في الجملة هو أبلغ من ابن يوسف، وأغزر وأحفظ وأروى وأجمّ ركيّة، وأعذب موردا، وأبعد من التفاوت، وليس ابن يوسف من ابن عبّاد في شيء.
فأما ابن العميد فإني سمعت ابن الجمل يقول: سمعت ابن ثوابة يقول: أوّل من أفسد الكلام أبو الفضل، لأنه تخيّل مذهب الجاحظ وظنّ أنّه إن تبعه لحقهّ، وإن تلاه أدركه، فوقع بعيدا من الجاحظ، قريبا من نفسه، ألا يعلم أبو الفضل أنّ مذهب