للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو سعيد: إذا حضرت الحلقة استفدت، ليس هذا مكان التدريس هو مجلس إزالة التلبيس، مع من عادته التمويه والتشبيه، والجماعة تعلم أنّك أخطأت، فلم تدّعي أن النحويّ إنما ينظر في اللّفظ دون المعنى، والمنطقيّ ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصحّ لو أنّ المنطقيّ كان يسكت ويجيل فكره في المعاني، ويرتّب ما يريد بالوهم السانح والخاطر العارض والحدس الطارئ، فأمّا وهو يريغ أن يبرز ما صح له بالاعتبار والتصفّح إلى المتعلّم والمناظر، فلابدّ له من اللفظ الّذي يشتمل على مراده، ويكون طباقا لغرضه، وموافقا لقصده.

قال ابن الفرات لأبي سعيد: تمّم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس، والتبكيت عاملا في نفس أبي بشر.

فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلّا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال ملّ.

فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر.

فقال أبو سعيد: إذا قلت: «زيد أفضل إخوته» لم يجز، وإذا قلت: «زيد أفضل الإخوة» جاز، والفصل بينهما أن إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج عن جملتهم.

والدليل على ذلك أنه لو سأل سائل فقال: «من إخوة زيد» لم يجز أن تقول: زيد وعمرو وبكر وخالد وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن تقول: أفضل إخوته، كما لم يجز أن تقول: «إن حمارك أفره البغال» لأن الحمير غير البغال، كما أن زيدا غير إخوته، فإذا قلت: «زيد خير الإخوة» جاز، لأنّه أحد الإخوة، والاسم يقع عليه وعلى غيره، فهو بعض الإخوة، ألا ترى أنه لو قيل: «من الإخوة» ؟ عددته فيهم، فقلت: «زيد وعمرو وبكر وخالد» فيكون بمنزلة قولك: «حمارك أفره الحمير» لأنه داخل تحت الاسم الواقع على الحمير. فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول: «زيد أفضل رجل» و «حمارك أفره حمار» فيدلّ «رجل» على الجنس كما دلّ الرجال، وكما في «عشرين درهما ومائة درهم» .

فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جلّ علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار.

فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخّي الصواب في ذلك وتجنّب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد، أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على

<<  <   >  >>