فطرتهم. فأما ما يتعلّق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلّم لهم ومأخوذ عنهم، وكلّ ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطّرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيّين لظنهم أن المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلّفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون. وجعلوا تلك الترجمة صناعة، وادّعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متّى فقال: أما تعرف يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب، وتقول بالمثل: هذا ثوب والثوب اسم يقع على أشياء بها صار ثوبا، لأنّه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دونه لحمته ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته ورقّة سلكه كرقّة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كلّه ثوب، ولكن بعد تقدمة كلّ ما يحتاج إليه فيه.
قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلّما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه، في المنطق الّذي ينصره، والحقّ الذي لا يبصره.
قال أبو سعيد: ما تقول في رجل يقول: «لهذا عليّ درهم غير قيراط، ولهذا الآخر عليّ درهم غير قيراط» .
قال: ما لي علم بهذا النّمط.
قال: لست نازعا عنك حتى يصحّ عند الحاضرين أنّك صاحب مخرقة وزرق «١» ، هاهنا ما هو أخفّ من هذا، قال رجل لصاحبه:«بكم الثوبان المصبوغان» ، وقال آخر:«بكم ثوبان مصبوغان» وقال آخر: «بكم ثوبان مصبوغين» بيّن هذه المعاني التي تضمّنها لفظ لفظ.
قال متى: لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق أشياء لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت، لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصحّ لفظه على العادة الجارية أجبت، ثمّ لا أبالي أن يكون موافقا أو مخالفا، وإن كان غير متعلّق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متّصلا باللفظ ولكن على وضع لكم في الفساد على ما حشوتم به كتبكم رددته أيضا لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة في لغة مقرّرة بين أهلها.
ما وجدنا لكم إلّا ما استعرتم من لغة العرب كالسبب والآلة والسّلب والإيجاب والموضوع والمحمول والكون والفساد والمهمل والمحصور، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العيّ أقرب، وفي الفهاهة أذهب.
ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر، لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي