للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقدّر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه، وقدّر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه، هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به. فأمّا إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فاجل اللفظ بالروادف الموضّحة والأشباه المقرّبة، والاستعارات الممتعة، وبيّن المعاني بالبلاغة، أعني لوّح منها لشيء حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشّوق إليها، لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عزّ وجلا، وكرم وعلا، واشرح منها شيئا حتّى لا يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرّج عنه لاغتماضه، فهذا المذهب يكون جامعا لحقائق الأشباه ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس، على أنّي لا أدري أيؤثّر فيك ما أقول أو لا؟

ثم قال: حدّثنا هل فصلتم قطّ بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم الخلاف بين اثنين، أتراك بقوّة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه، والحقّ ما تقوله؟ هيهات، هاهنا أمور ترتفع عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدقّ عن عقولهم وأذهانهم.

ودع هذا، هاهنا مسألة قد أوقعت خلافا، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك:

قال قائل: «لفلان من الحائط إلى الحائط» ما الحكم فيه؟ وما قدر المشهود به لفلان؟ فقد قال ناس: له الحائطان معا وما بينهما. وقال آخرون: له النصف من كلّ منهما. وقال آخرون: له أحدهما. هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنّى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك.

ودع هذا أيضا، قال قائل: «من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم محال، ومنه ما هو مستقيم قبيح، ومنه ما هو محال كذب، ومنه ما هو خطأ» . فسّر هذه الجملة. واعترض عليه عالم آخر، فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض وأرنا قوّة صناعتك التي تميّز بها بين الخطأ والصواب، وبين الحقّ والباطل؟ فإن قلت:

كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته، والآخر لم أحصّل اعتراضه؟ قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملا له، ثم أوضح الحقّ منهما، لأن الأصل مسموع لك، حاصل عندك وما يصحّ به أو يرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة.

فقد بان الآن أنّ مركّب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل، والمعاني معقولة ولها اتّصال شديد وبساطة تامّة، وليس في قوّة اللفظ من أيّ لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به، وينصب عليه سورا، ولا يدع شيئا من داخله أن يخرج، ولا شيئا من خارجه أن يدخل، خوفا من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أنّ ذلك يخلط الحقّ بالباطل، ويشبّه الباطل بالحقّ، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأوّل قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بعد المنطق، وأنت لو عرفت تصرّف

<<  <   >  >>