العلماء والفقهاء في مسائلهم، ووقفت على غورهم في نظرهم وغوصهم في استنباطهم، وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقّرت نفسك، وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوه عليه أقلّ في عينك من السّها عند القمر، ومن الحصا عند الجبل. أليس الكنديّ وهو عليم في أصحابك يقول في جواب مسألة «هذا من باب عدّ» . فعدّ الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب، حتّى وضعوا له مسائل من هذا الشكل وغالطوه بها وأروه أنها من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد فيه أنّه صحيح وهو مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوّش اللّب.
قالوا له: أخبرنا عن اصطكاك الأجرام، وتضاعف الأركان؟ هل يدخل في باب وجوب الإمكان؟ أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟
وقالوا له أيضا: ما نسبة الحركات الطبيعيّة إلى الصّور الهيولانيّة؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان، أو مزايلة له مزايلة على غاية الإحكام؟
وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الرّكاكة والضّعف والفساد والفسالة والسّخف. ولولا التوقّي من التطويل لسردت ذلك كلّه، ولقد مرّ بي في خطّه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به، لأنّه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع، وكلّ ما يكون على هذا النّهج فالنّكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النّكرة، على أنّ النّكرة والمعرفة من باب الألبسة العارية من ملابس الأسرار الإلهيّة، لا من باب الإلهيّة العارضة في أحوال البشرية.
ولقد حدثنا أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى ويشمت العدوّ ويغرّ الصّديق، وما ورث هذا كلّه إلّا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق ونسأل الله عصمة وتوفيقا نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنّه سميع مجيب.
هذا آخر ما كتبت عن عليّ بن عيسى الرّمّاني الشيخ الصالح بإملائه. وكان أبو سعيد قد روى لمعا من هذه القصّة.
وكان يقول: لم أحفظ عن نفسي كلّ ما قلت، ولكن كتب ذلك أقوام حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضا، وقد اختلّ عليّ كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوّض المجلس وأهله يتعجّبون من جأش أبي سعيد الثابت ولسانه المتصرف ووجهه المتهلّل وفوائده المتتابعة.