وقال الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيّها الشيخ، فقد ندّيت أكبادا وأقررت عيونا، وبيّضت وجوها، وحكت طرازا لا يبليه الزمان، ولا يتطرّق إليه الحدثان.
قلت لعلي بن عيسى: وكم كانت سنّ أبي سعيد في ذلك الوقت؟
قال: مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشّيب بلهازمه «١» مع السّمت والوقار والدّين والجدّ، وهذا شعار أهل الفضل والتقدّم، وقلّ من تظاهر به أو تحلّى بحليته إلا جلّ في العيون وعظم في النفوس، وأحبّته القلوب، وجرت بمدحه الألسنة.
وقلت لعليّ بن عيسى: أما كان أبو عليّ الفسويّ النحويّ حاضر المجلس؟
قال: لا، كان غائبا، وحدّث بما كان، فكان يكتم الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور، والثناء المذكور.
فقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكّرتني شيئا قد دار في نفسي مرارا، وأحببت أن أقف على واضحه، أين أبو سعيد من أبي عليّ، وأين عليّ بن عيسى منهما، وأين ابن المراغيّ أيضا من الجماعة؟ وكذلك المرزبانيّ وابن شاذان وابن الورّاق وابن حيّويه؟
فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب وأدخل في كلّ باب، وأخرج من كلّ طريق، وألزم للجادّة الوسطى في الدّين والخلق، وأروى في الحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفة، وأظهر أثرا في المقتبسة. ولقد كتب إليه نوح بن نصر- وكان من أدباء ملوك آل سامان- سنة أربعين كتابا خاطبه فيه بالإمام وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة، الغالب عليها الحروف، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شكّ فيها فسأل عنها، وكان هذا الكتاب مقرونا بكتاب الوزير البلعميّ خاطبه فيه بإمام المسلمين، ضمّنه مسائل في القرآن وأمثالا للعرب مشكلة.
وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الدّيلم من أذربيجان كتابا خاطبه فيه بشيخ الإسلام، سأله عن مائة وعشرين مسألة، أكثرها في القرآن، وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أصحابه رضوان الله عليهم.
وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتابا خاطبه فيه بالشيخ الجليل، وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المرويّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وعن السلف.